المطلب الثاني
شبهة التعامل مع النبي وزوجاته
بقيود لم تفرض على نساء العالم
كان من المفترض أن يكون لهذا المطلب الأولويّة على شبهة ضرب المرأة ، لأهميته ، ولكونه يمس الحياة الشريفة لرسول الهدى مع زوجاته ، إلا إننا وجدنا إن شبهة ضرب المرأة ، خير مدخلٍ لما نحن بصدده ، كما أننا اخترنا التوالي بالأهمية بالنسبة للنظر في قضية الضرب ، والتي كانت من طباع الجاهلية ، ونبدأ قولنا بأنه سبحانه أعطى بعض الخصوصيّة ، وفرض قيوداً على نساء النبي لم تفرض على بقية نساء العالمين ، كان أهمها منعهن من الاقتران بزوجٍ بعد وفاته ، وثانيهما وهو قيد لا يقل في الأهمية عن القيد الأول ، وهو منعهن من تبرج الجاهلية الأولى ، وقبل هذا القيد وذاك سننظر لأمره تعالى في الحجاب والتبرج بشكل عام ، ومن ثم نخلص لمطلبنا .
أولا – أحكام الساتر ( الحجاب )
وهنا تسكب العبرات ، حيث البلاء الأعظم ، و الواجب الأمرّ والأشقى هو ذاك الحجاب وذاك الجلباب ، على كل نساء العالم من الموحدين ومذ أول الرسالات على بني إسرائيل ، حتى آخرها على صدر رسولنا الكريم ، ففي العهد القديم أدلّـةً قاطعة للبس الحجاب كالذي جاء في سفر أشعياء
" خُذِي الرَّحَى وَاطْحَنِي دَقِيقاً. اكْشِفِي نُقَابَكِ، شَمِّرِي الذَّيْلَ " كما جاء في سفر نشيد الأناشيد والتكوين ودانيال (16)
أما العهد الجديد فجاء بلهجة حادة وزاجرة ، إذْ كانت النساء قديما يرتدين الحجاب ، لا على أساس الأمر الإلهي فقط ، بل لأن الطبيعة بما تحمل من رياحٍ عاصفةٍ ، وبما تحمله من كثبان رملية ومشقة غسل المرأة لشعرها ، فلم تكن المرأة بحاجة لأمر قهري للبس الحجاب ، ويبدو أنهم بعد استقرارهم في مناطق ذات طبيعة هادئة ، كبلاد الشام وازدهار الغطاء الزراعي ، وحيث إن الأرض لم تكن رمليّة كما في مصر ، بدأت النساء بترك الحجاب ولبس الثياب الشفّافة ، وإليك بعض مما جاء في الكتاب المقدّس ، والأوامر الخاصة بالحجاب والملبس وزينة الوجه :
[وَأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغَطّىً فَتَشِينُ رَأْسَهَا لأَنَّهَا وَالْمَحْلُوقَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. إِذِ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَتْ لاَ تَتَغَطَّى فَلْيُقَصَّ شَعَرُهَا. وَإِنْ كَانَ قَبِيحاً بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُقَصَّ أَوْ تُحْلَقَ فَلْتَتَغَطَّ(17)
“احْكُمُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: هَلْ يَلِيقُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُصَلِّيَ إِلَى اللهِ وَهِيَ غَيْرُ مُغَطَّاةٍ” (18)
“ أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل، لاَ بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ” (19) ]
فما سنجده في القرآن ، والذي يعدّ الآن رمزاً للحجاب ، رغم انحساره عن الأمس القريب ،
المفاجأة إن القرآن ما جاء بآيةٍ واحدة يأمر بها النساء بلبس الحجاب بشكل مباشر ، ومن يدّعي أن آية الزينة تعني الحجاب ، فقوله مردود عليه ، لأن شعر المرأة ليس بالزينة ، فالزينةُ ما تعلو البشرة وليس ما ينبت فيها ، كقوله تعالى
{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } النور/31 ، والقصد هنا الخلاخل والحجول ، أمّا لماذا لم يخص الله المؤمنات بشكل عام بلبس الحجاب ، وبشكل صريح ، فنرى إن ذلك يعود لأمور :
1 – الأمر بالأدنى بياناً لما علاه .
كـــ{ فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } الإسراء/23 ، فلم يرد في القرآن الكريم أمر بعدم ضرب الأبوين ، بياناً لرفضه التام حتى لذكر مثل هذا الأمر ، ومن باب أولى ، لأنه أمر بما دون ذلك ، فليس هـــناك من داعٍ لذكر ما عـــلاه ، فــحين يقـــول سبـحانه {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}النور/31
فالجَيب هو الزاوية و للمرأة ثلاثة جيوب ، أحدهم بين الفخذين ، وجيبين بين اليدين ( الإبطين ) ، ويمكن اعتبار الحَنك للرقبة جيب رَابع لأنها زاوية ، ولأن الخمار يعرف بأنه ما يغطي الرأس ، لا بل الاصح هي ما تعرف بالعباءة الساترة ، لكل الجسد والزوايا ، فبذلك لابد أن تغطي رأسها لتضرب على جيب العنق ، وسوف يتضح لنا إن الله أمر المرأة بلبس ما يعرف لدى أهل العراق بــ( العباءة ) وليس الحجاب .
2 – حكم الطبيعة والتطبع لِمَا كان عليه العرب . فطبيعة حياتهم وبيئتهم كانت أشد من حياة اليهود في مصر ، لذا أوجبت حتى على الرجال لبس غطاء للرأس ، ووضع اللثام ، لما لديهم من شمسٍ محرقة وجوٍ رمليٍّ عاصف ، وبما عُرف عن العربي الغيور على أهل بيته من أنظار كل غريب و طامع ، وتأسّيهم بنساء النبي وأهل بيته والكتابيات من اليهود والنصارى ، فإذا كان الحجاب من طبيعتهم فلا داعٍ من إيراد آية تأمرهم بما يأمرون أنفسهم به ،
فلم تبقَ من حجّةٍ بعد ما تقدم أن نبحث عن تشريع قرآني للبس الحجاب .
ثانيا – التبرّج .
{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ } النور / 60
وهذا ما يخص وضع الثياب ، أي يضعن ثيابهن دون العباءة ، التي تستر كل ثيابها وزواياها ، فلها الحق أن تخرج بالثوب ، على أن لا يكون الثوب لامّعا أو جاذباً أو فيه ما نسميها اليوم بــ(الاكسسوارات)
فلا جناح أن لا تلبس العباءة ، التي تغطي جيب الإبطين ، وتلبس الثوب الذي يغطي الجيب ، الذي هو بين الفخذين وهو كالجلباب الذي يلبسه الرجل ، وهنا جاء دور الخمار كحجاب للشعر ، فحكم شعر المرأة بنفس حكم الجسد وليس من الزينة ، أما التبرج ......
البرج لغةً هو : (( الحصن ))
وهو : البيت يبنى على سور المدينة ، وعلى سور الحصن
وهو بناء مرتفع على شكل مستدير أو مربع ويكون مستقلاً أو قسماً من بناء عظيم (+) .
فعلى كل النساء أن ( يتـبرجنَ ) ببروج الستر لا ببروج الزينة ، لذا فنحن نطلب الرحمة لهذه المفردة ، التي تعني التحصن ،
ومفهوم المخالفة يعطينا معنى الخمار ، أي بعد أن كانت تتبرّج بالخمار لتحجب الناظر ، فلا يصح أن تقوم بالتبرج بالزينة ، إذ أن أصل معنى التبرج هو التحصن وإبعاد نظر الآخرين لها وذلك بالعباءة مثلا ، وحين نقول متبرجات بزينة ، يعطينا عكس المراد ، أي تكون عباءتها الزينة ،
كما جاء في قوله تعالى { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ }
أي النجوم اللامعة في السماء(20) ، والتي تتميز بلمعانها حتى عن باقي النجوم الأخرى ،
ولمّا قلنا إن الزينة هي ما يعلو البشرة ، فيعد كل ما تتحلّى به المرأة من أصباغ وحلي هي من ضمن التبرج بالزينة ، أي كل شيء ملفت للانتباه صوتاً أو صورةً أو رسماً .
ونأتي الآن على ما خصّ به نساء النبي ، في النص الذي جاء به تعالى متحدثا مع المسلمين في تعاملهم مع بيت النبي وزوجاته ، ذكر لنا سبحانه الحجاب كساتر بين ضيوف الرسول و نسائه ، وهذا ما يحبّذ فعله من قِبَل باقي نساء العالم ، ما لم يكن فيه الاستحالة ، كحكم عملها ودراستها ، لكن هذا الحكم إن كان على نساء العالم مستحبّا فعلى زوجاته (صلّوآله) واجباً لا استثناء فيه ،
ثم جاء تعالى بالحكم عليهنّ بما لم يكن لغيرهن من نساء العالم على وجه الأرض ، وهو أمره تعالى بحرمة العقد على زوجاته بعد وفاته ،
{ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } الأحزاب / 53
سنقف قريباً على أن المفسرين دون استثناء لأحدٍ منهم ، لم ينصفوا الرسول (صلّوآله) في كل الآيات التي جاءت عنه وعن حياته الشخصية مع زوجاته أو مع صحابته ، لأن معظم الصحابة كانوا من أصول البطون العربية ، ولدينا نحن العرب روابط العروبة والقومية هي الأعظم والأسمى عن بقية الروابط ،
فراح الخصوم يتهمون رسولنا الكريم بأبشع التهم ليس أقلّها أن الله أنزل الآيات على رغبات الرسول (حاشاه) ، كمَنعِ الآخرين من أن يتزوّجوا بزوجاته بعد وفاتهِ ، ورغم علمنا بأسباب النزول لهذا الآية ، لكن أحداً لم يبالي بالنظر بأسباب التشريع ، لأن التشريع أسبق من النزول ، أي إن الحكم معد مسبقاً ، لكن ما أنزله وجعله موضع التنفيذ هو ما ندعوه بـ(أسباب النزول) ، فسبب نزولها مثلا ، أن تكون رداً لمن أراد الزواج بإحدى زوجاته بعد وفاته(صلّوآله) لكن السؤال المهم ، لماذا منع الله جل وعلا نساء النبي من الزواج من بعده ، أو منع الآخرين من أن يتزوجوا بهنّ ،
المُطّلع على حياة الرسول سيفهم إن السبب الأكيد ، هو أن لا تتزوّج أيّ واحدةٍ منهنّ بعده ، وتَحْمِل ، ثمّ تنسب ابنها للرسول ، فقد عقد الرسول بثلاثة عشرة امرأة ، علاوة على ما يروى من إن واحدة منهن طلقها ليلة الدخول عليها ، إن صحّت الرواية ، وهذا يعني أن لا عصمة تامة ولا شُبْه تامة ، لزوجات الأنبياء ، كما ذُكِرَ عن زوجة نوح ولوط (ع) ،كذا زواجهُ من مطلقةِ زيد ، حيث ادعى زيد عدة مرّاتٍ ، أنه ابن الرسول ، يرثهُ كما ترث الأبناء الآباء (21) ، فكان لزاماً أن يضع الله(جل جلاله) نهايةً للأقاويل والظنون ، التي قد تأخذهم لمعاملة زيد معاملة الابن ، ويكون أبن زيد وريث النبوّة ، بل قيل لو أن زيداً لم يمتْ لاستخلفه الرسول من بعده (22) ، لا سيما وأنهم يتطلّعون منذ بدايات البعثة الشريفة ، لمن سيخلُف الرسول بعد وفاته ، كما خصّت نساء النبي أوامر أخرى أهمها تبرج الجاهلية الأولى ، التي فُهمتْ فهماً لعيناً ومنحرفاً ...
( تبرج الجاهلية الأولى )
ومن أكثر المفردات التي ظُلمت في فهمها هي التبرج ، لأن التبرج كما قلنا هو التحصن ، وما يدعو للسخرية ، صدور قانون بمنع التبرج ، وحين تطلع على بحثٍ ، مكون من عشرات الصفحات حول حرمة التبرج [ الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية " ( 2 / 684 – 691 )] ، فمن أفهمَ هؤلاء الخلق إن التبرج حرّمه الله ، إنما حرّم التبرج بالزينة أو تبرج الجاهلية الأولى ،
وتبرج الجاهلية الأولى الذي جاء في آية التطهير ، هو كالتبرج بالزينة الذي مرّ بنا آنفا ، وهو بنفس المعنى ، من لفت نظر الرجال أو الرعية ، لكنّ كل ما جاء به أهل التفسير ، مغالط لطبيعة الأحكام الإلهية ، ومهين لعزة النبي الأكرم ، فقد جاء تفسيرهم أن تبرّج الجاهلية هو العري (23) ، وأن لا تلبس فيه المرأة غير عقد اللؤلؤ ، فعلام يخص الله نساء النبي دون باقي نساء العالمين ، وإذا كان سبحانه بيّن حرمة ضرب الأرض بالرجل لإبداء الزينة ، فما الداعي لتخصيص آية تتوسع في حكمها ، أي إذا كانت الزينة محرّمة ، فما بالك باللؤلؤ والعري ، أمن العقل تقبل مثل هذا التفسير ، وهل يعلمون ما معنى قولهم هذا والعياذ بالله تعالى (24) ،
أنا كرجل قانون أفهم قاعدة لا شواذ فيها ، وهي إن مشرع القوانين حين يأتي بنص جزائي ، فلا بدّ أنه يتوقع أن أحداً ما ، سيقوم بتلك الجريمة أو المخالفة ، وإلا أصبحت المادة ميّتة في ساعة إصدارها ، فما بالك بأحكام الله(جل جلاله) ، لا بل والمصيبة الأكبر إنه طعن بهن حاشاه وحاشا رسوله الكريم ، مثال ذلك : نفترض إن المشرع أصدر قانوناً منع فيه النساء من الخروج دون حجاب ، لعلمه بقيام النساء بفعل ذلك ، لكنه أردف قائلاً ((كما لا يجوز أن تخرج زوجة المفتي الأعلى للديار ، عاريةً بين الناس ومرتديةً لعقد اللؤلؤ )) ، أيصحّ أن يطعنَ سبحانه وتعالى بزوجات النبي مثل هذا الطعن ، و هذا التفسير من أعظم الأدلة على إصابة بعض المفسرين بالتيه والبلاهة ، وقد ذكرتُ لك في المصادر عدد من المفسرين الذين جاءوا بتلك الآراء (23 و 24 و25 )
فما كان قصده سبحانه في هذه الآية .....
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } الأحزاب /33
هنا يخاطب الله(جل جلاله) نساء النبي ويأمرهنّ بالبقاء في البيت وعدم الخروج منه ،
فقد كانت للجاهلية الأولى أعرافاً تقضي بأن تركب زوجة أمير البلاد أو سلطانها على بروجٍ أو على الدواب ، لتأمر وتنهى الرعية ، وتستكشف أحوال البلاد و أعمال العباد ، وإذا ما قامت الحرب ، فإنها تقوم بإلقاء الخطب والقصائد ، لحثّ الجند على القتال والاستبسال في المعركة ، مثال ما قامت به هند بنت عتبة ، من حَثّ الجند في معركة أُحُد لمقاتلة جيش الرسول الكريم ، وهذا هو معنى تبرج الجاهلية الأولى ، أي الصعود على أبراجٍ عالية أو دواب للترفّع والسمو ، فبما أن رسول الله هو زعيم الأمة الإسلامية العربية الجديدة ، فحدّ سبحانه من أن يتصرفنَ كما فعلن زوجات السلاطين أيام الجاهلية ، وخير دليل على ذلك إن تبرج الجاهلية ، يجب أن يخالف البقاء في البيت ، فنص الآية يقول { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } لذا يكون التبرج ما يخالف البقاء في البيت ، أي وقرن في بيوتكن ولا تخرجن منها خروج الجاهلية الأولى ،
لكن تلك الحدود وإن أمر الباري زوجات النبي بها ، وألزمهنّ إلزاماً قاطعا ، في حياة الرسول أو بعد موته ، فمن المؤكد والمستحسن أن تتقيد كل زوجات الزعماء بذلك ، و تقتدي كل المؤمنات بها كَأخلاقيات .
المطلب الثالث
شبهة المحكم والمتشابه
والناسخ والمكرر
هذا المطلب ، ليس لتفسير معنى المحكم والمتشابه ، بل لدراسة أسباب وجودها ،
دستور السماء ، و كلام عالم الغيب والشهادة ، لمَ فيه آيات محكمات و أُخر متشابهات وأخر ناسخات و أُخر خيرٌ من أُخر ، إضافة للآيات المتكررة بصياغتها ، بدل أن يوضّح فيها جل جلاله ، ما التبس علينا في كثيرٍ من الأمور ، لقد اختلفت المذاهب حتى في الوضوء ورؤية الهلال ، وكل شيء ، لكنّ الجَمْعَ اتفق إلا من القليل ، أن في القرآن الناسخ والمنسوخ ، فبات من المسلّمات أنه(جل جلاله) نسخ خلال ثلاثة وعشرين سنة من البعثة النبوية ، آيات وجاء بأخرى خير من أخرى ، لكنّ عهدي بالله يمنعني من الانسجام بما تقدم ، فسنّته لا تغيير فيها ولا تبديل ، منذ خلق الخلق وحتى بعد فناء الخلق ،
قضية واحدة تحل كل ما أشكل علينا ، وهي أن الله(جل جلاله) ينظر لكل الكتب السماوية ، التي أنزلها على أنها كتاب واحد ،
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} هود /17
وسوف نسْترسل بالفكرة ، لترى إن كل ما جاء من النسخ ، هو في الآيات التي جاءت في الكتب الأولى ، وكذلك أسماها الله في سورة الأعلى ، الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى ، كذلك المتشابه من الآيات
{ َأفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } الأنعام / 114
الكتاب الأول هو القرآن { إليكم الكتاب } بعد أن فُصِلَ و تفصّل عن باقي الكتب ، والكتاب الثاني هو التوراة والإنجيل . ونلاحظ الكيفية :
ما أنزل الله(جل جلاله) من علاه إلا كتاباً واحداً ، ولكن لم ينزّل دفعة واحدة بل على شكل زبر أو أسفار ، وللتوضيح سنقول على شكل أجزاء ، كانت حصة الرسول محمد (صلّوآله) هو القرآن بالأجزاء الثلاثين ، العشرة الأولى والثانية جئن في الكتب الأولى ، أي مشتركات بيننا وبين الكتب السابقة ، ولكن جئنَ بصيغ مختلفة أو غامضة ، وفيهن ما تخص شريعة النبي محمد (صلّوآله) لأمّته من عبادات ومعاملات ، والعشر الأخيرة أطلق الباري عليهنّ اسم الفُرقان ، وهذه الأجزاء العشر تضمّنت خطاباً مباشراً مع أمة النبي ، و تَـكْـشفُ كل ما تعرّض له الرسول من أذى سواء على يد قريش أو اليهود والنصارى ، وتطرقت لبعض المنافقين الذين أعلنوا إسلامهم زيفا ليتجسسوا على الرسول ، بل ومنهم من كانت مهمته قتل الرسول ، كبنائهم جامع لقتل الرسول وأصحابه ،
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} براءة/110
وأحاطت هذه الأجزاء العشرة ، بكل تفاصيل حياة الرسول حتى ما بَدَرَ من بعض زوجاته ، ومن بعض أصحابه ، كمُناداته من خلف الحجرات ، أو من يرفعوا أصواتهم على صوت النبي ، وهذه الأجزاء تُسمّى (الفرقان) ، أي ما اختلفت وافترقت به أمة محمد (صلّوآله) عن باقي الأمم ، ونستعرض القضية بشكل تفصيلي .
الفرع الأول
المحكم والمتشابه
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ }آل عمران/7
اشتمل القرآن على آياتٍ سبق وان جاءت في الكتب السابقة لذا دعاهن الله بــ(المتشابهات) ، و آياتٍ أخرى هن ( أم الكتاب ) ، أي لم يسبق للآيات المحكمات ، أن ورد ذكرهن في الكتب السابقة ، وبالتالي فهنّ أمّ الكتاب ، فأمّا الذين في قلوبهم زيغٌ ، فيقولون لقد سرق رسولكم (حاشاه) هذه الآيات من التوراة أو الأنجيل ، وأمّا الراسخون في العلم فلا يعنيهم هذا التشابه ، لأنهم يعلمون إن كل الكتب السماوية تصدر من سراجٍ واحد ، بقيَ أن نعرف لماذا قال سبحانه { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ }
المقصود بالتأويل هنا ، إرجاع أصل الآيات إلى الكتب السماوية السابقة ومرجعيتها ، و أيلولة كل آية إلى أي كتاب سماوي سابق ، فلا يقصد هنا تفسيره ومعناه ، وللتوضيح دعنا نأخذ مثالا حقيقياً لذلك :
الآية { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } الأعراف/40
جاءت هذه الآية في الكتاب المقدّس بنفس الشكل والمضمون تقريباً ، والراسخون في العلم ، يقولون آمنا بالقرآن وغيره من الكتب السماوية ، وهذه الآية دليل على إن القرآن والإنجيل نزلا من عند الله ، أي يتخذونه دليلاً إيجابيا لصالح القرآن ، فكلٌ من عند الله تعالى ، والذين في قلوبهم زيغ أرادوا أن يفتنوا المسلمين ، بأن قالوا إن القرآن جمعه الرسول حاشاه من الكتب السابقة ، لِيفتنوا المسلمين الجُدد و أرادوا فتنةً أخرى ، بين المسلمين والكتابيين أيضاً ،
= { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ } فبعد أن قاموا بتحريف التوراة والإنجيل ، عاد من المحال على بني البشر ، التعرّف على ما كان في التوراة والانجيل ، والتعرّف على كل آية ، هل إنها كانت في الكُتُب السابقة أم لا ، و بما ان الله هو من أنزل الآيات سواءً في الكُتُب السابقة ، أم القرآن ، فهو بالتأكيد وحده من يعلم تأويله ، ومن ثم أيلولة آياته ،
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } البقرة /146
وأرى الآن فرصة للكتابيين لكي يتعرفوا على الآيات التي لاشك بصحتها في كتابهم ، من خلال القرآن وليس العكس ، أي إذا كان في كتابهم آيات بذات المضمون الذي جاءت به آيات القرآن ، فيؤمنون أنها من عند الله لاشك ، وما لم يكن لها من شبه ، فعليهم التحقق من صحتها ، أمّا التي تختلف بشكل كلي عن سنة الله ، والتي أوضَحَها في القرآن ، فلا مناص أنها ليست من الكتاب .
فما الذي أشكل علينا ، بعد تفهم أن الله قصد الكتاب على أنه كل الكتب ،
الجواب بكل بساطة هو (الاحتلال) ، أي قيامنا باحتلال وتملك الدين والكتاب ، حتى أصبح القرآن وكأنه من صنع العرب ، وجاء في العرب وتحدث عن العرب ، لذا ابتعدنا عن تقبل ، أنه يشير الى الكتاب ، ويعني كل الكتب مرّة والتوراة مرّة اخرى وهكذا (26) ، فلاحظ قوله
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ على رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ }
لأن صحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، كلها عند الله كتاب واحد ، أنزله على شكل زبر أو أجزاء أو فصول ، كما أطلق عليها الله جل وعلا ، فتدبر قوله تعالى { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } هود / 1
ثم تدبر قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ } عمران / 8
هل ترى التفاوت بينهما .....
الكتاب الأول في سورة (هود) قصد به تعالى كل كتبه السماوية قبل إنزالها على بني البشر ، فجعله على فصول ، فصل منه لموسى ، وآخر لداود ، وآخر لعيسى ، أما القرآن فيشمل أجزاءً كثيرة من كل الكتب السابقة إضافة لفصل جديد أطلق عليه الله اسم الفرقان ،
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام} آل عمران/4
و لمزيدٍ من التوضيح نقول :
ترى سبحانه ، نادى اليهود بأهل الكتاب ، ونادى النّصــارى بأهل الكتاب ، وناداهم معاً بأهل الكتاب، ولـم يناديهم بأهل الكُتُب وتمعن في قوله
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَـلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ }
جاء التفصيل بأن هذا الكتاب نـُزّل على أممٍ اختلفت فيما بينها بالمعاجز والأنبياء والأحداث أي بالتفاصيل ، ثم تابع قوله تعالى ... {ِكتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } هود / 1
فلو أبدلنا ( ثم ) بــ(و) لكان التحكيم والتفصيل أصبحا في آن واحد وأصبح المقصود بالكتاب هو القرآن ،
لكن ( ثم ) تعني زمناً طويلاً ومختلفاً ، و لا تعني كما جاء في رأي المفسرين (27) الترتيب التشريعي ، لأن القرآن ما هو بالفصول من حيث الترتيب ، وإن كان المعنى الترتيب التشريعي ، فما ذاك بالمنقبة التي يذكرها الله بآيةٍ قرآنية ، فكل دساتير الأحزاب والدول مرتبة تشريعياً ، وما هي المعلومة الجديدة التي أضافتها هذه الآية ، وما نفع انزالها ، وكأنهم يقولون أن هذه الآية تعني (أن القرآن فيه الشريعة ، والدستور السماوي هو دستور سماوي) ، والآن نعود لقوله تعالى
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ }آل عمران/7
ففي قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) نلاحظ أنه سبحانه جاء بـ(ما) ولم يأتِ بـ(لن) أو (لا) الناهية بل بـ(ما) النافية ونفيها غير مؤكد ،
فلماذا ؟ ..... لأنه سبحانه إذا أتى بـ(لن) أو (لا) وكان قصدوه القرآن حصل ما يأتي
1 – منع من تأويله بشكل قطعي ، أي حرّم علينا التأويل ، ولن يأتي من البشر من يحسن تأويله حتى الرسول الكريم .
2 – أحدث خللا في ماهية القرآن ، وبات كالطلاسم .
وبهذا فالله لم ينه حتى عن تأويل الكتاب ، سواء كان المقصود في الآية (القرآن) أو (أيلولة آيات القرآن) للكتب الأخرى ، بل قال ما يعلمه غيري ،
وهذا دليلُ عمق مَـفاهيم الــكتَاب لا دليل منع التّـعرف على مفاهيمه ، وأصبح الأمر خلاف ما جاء به كل المفسرون ،
كما أنه لا جدوى من الاطلاع الآن عــلى كتبهم لأنها إن صحّت فــي التوراة والإنجيل آية من الكتاب ، فهي عندنا بالمتشابهات ، وما لم يوجد فيهن فهو عندنا في المحكمات ، وعلى نفس المنوال نقول عن الناسخات من الآيات ...
شبهة التعامل مع النبي وزوجاته
بقيود لم تفرض على نساء العالم
كان من المفترض أن يكون لهذا المطلب الأولويّة على شبهة ضرب المرأة ، لأهميته ، ولكونه يمس الحياة الشريفة لرسول الهدى مع زوجاته ، إلا إننا وجدنا إن شبهة ضرب المرأة ، خير مدخلٍ لما نحن بصدده ، كما أننا اخترنا التوالي بالأهمية بالنسبة للنظر في قضية الضرب ، والتي كانت من طباع الجاهلية ، ونبدأ قولنا بأنه سبحانه أعطى بعض الخصوصيّة ، وفرض قيوداً على نساء النبي لم تفرض على بقية نساء العالمين ، كان أهمها منعهن من الاقتران بزوجٍ بعد وفاته ، وثانيهما وهو قيد لا يقل في الأهمية عن القيد الأول ، وهو منعهن من تبرج الجاهلية الأولى ، وقبل هذا القيد وذاك سننظر لأمره تعالى في الحجاب والتبرج بشكل عام ، ومن ثم نخلص لمطلبنا .
أولا – أحكام الساتر ( الحجاب )
وهنا تسكب العبرات ، حيث البلاء الأعظم ، و الواجب الأمرّ والأشقى هو ذاك الحجاب وذاك الجلباب ، على كل نساء العالم من الموحدين ومذ أول الرسالات على بني إسرائيل ، حتى آخرها على صدر رسولنا الكريم ، ففي العهد القديم أدلّـةً قاطعة للبس الحجاب كالذي جاء في سفر أشعياء
" خُذِي الرَّحَى وَاطْحَنِي دَقِيقاً. اكْشِفِي نُقَابَكِ، شَمِّرِي الذَّيْلَ " كما جاء في سفر نشيد الأناشيد والتكوين ودانيال (16)
أما العهد الجديد فجاء بلهجة حادة وزاجرة ، إذْ كانت النساء قديما يرتدين الحجاب ، لا على أساس الأمر الإلهي فقط ، بل لأن الطبيعة بما تحمل من رياحٍ عاصفةٍ ، وبما تحمله من كثبان رملية ومشقة غسل المرأة لشعرها ، فلم تكن المرأة بحاجة لأمر قهري للبس الحجاب ، ويبدو أنهم بعد استقرارهم في مناطق ذات طبيعة هادئة ، كبلاد الشام وازدهار الغطاء الزراعي ، وحيث إن الأرض لم تكن رمليّة كما في مصر ، بدأت النساء بترك الحجاب ولبس الثياب الشفّافة ، وإليك بعض مما جاء في الكتاب المقدّس ، والأوامر الخاصة بالحجاب والملبس وزينة الوجه :
[وَأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغَطّىً فَتَشِينُ رَأْسَهَا لأَنَّهَا وَالْمَحْلُوقَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. إِذِ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَتْ لاَ تَتَغَطَّى فَلْيُقَصَّ شَعَرُهَا. وَإِنْ كَانَ قَبِيحاً بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُقَصَّ أَوْ تُحْلَقَ فَلْتَتَغَطَّ(17)
“احْكُمُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: هَلْ يَلِيقُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُصَلِّيَ إِلَى اللهِ وَهِيَ غَيْرُ مُغَطَّاةٍ” (18)
“ أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل، لاَ بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ” (19) ]
فما سنجده في القرآن ، والذي يعدّ الآن رمزاً للحجاب ، رغم انحساره عن الأمس القريب ،
المفاجأة إن القرآن ما جاء بآيةٍ واحدة يأمر بها النساء بلبس الحجاب بشكل مباشر ، ومن يدّعي أن آية الزينة تعني الحجاب ، فقوله مردود عليه ، لأن شعر المرأة ليس بالزينة ، فالزينةُ ما تعلو البشرة وليس ما ينبت فيها ، كقوله تعالى
{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } النور/31 ، والقصد هنا الخلاخل والحجول ، أمّا لماذا لم يخص الله المؤمنات بشكل عام بلبس الحجاب ، وبشكل صريح ، فنرى إن ذلك يعود لأمور :
1 – الأمر بالأدنى بياناً لما علاه .
كـــ{ فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } الإسراء/23 ، فلم يرد في القرآن الكريم أمر بعدم ضرب الأبوين ، بياناً لرفضه التام حتى لذكر مثل هذا الأمر ، ومن باب أولى ، لأنه أمر بما دون ذلك ، فليس هـــناك من داعٍ لذكر ما عـــلاه ، فــحين يقـــول سبـحانه {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}النور/31
فالجَيب هو الزاوية و للمرأة ثلاثة جيوب ، أحدهم بين الفخذين ، وجيبين بين اليدين ( الإبطين ) ، ويمكن اعتبار الحَنك للرقبة جيب رَابع لأنها زاوية ، ولأن الخمار يعرف بأنه ما يغطي الرأس ، لا بل الاصح هي ما تعرف بالعباءة الساترة ، لكل الجسد والزوايا ، فبذلك لابد أن تغطي رأسها لتضرب على جيب العنق ، وسوف يتضح لنا إن الله أمر المرأة بلبس ما يعرف لدى أهل العراق بــ( العباءة ) وليس الحجاب .
2 – حكم الطبيعة والتطبع لِمَا كان عليه العرب . فطبيعة حياتهم وبيئتهم كانت أشد من حياة اليهود في مصر ، لذا أوجبت حتى على الرجال لبس غطاء للرأس ، ووضع اللثام ، لما لديهم من شمسٍ محرقة وجوٍ رمليٍّ عاصف ، وبما عُرف عن العربي الغيور على أهل بيته من أنظار كل غريب و طامع ، وتأسّيهم بنساء النبي وأهل بيته والكتابيات من اليهود والنصارى ، فإذا كان الحجاب من طبيعتهم فلا داعٍ من إيراد آية تأمرهم بما يأمرون أنفسهم به ،
فلم تبقَ من حجّةٍ بعد ما تقدم أن نبحث عن تشريع قرآني للبس الحجاب .
ثانيا – التبرّج .
{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ } النور / 60
وهذا ما يخص وضع الثياب ، أي يضعن ثيابهن دون العباءة ، التي تستر كل ثيابها وزواياها ، فلها الحق أن تخرج بالثوب ، على أن لا يكون الثوب لامّعا أو جاذباً أو فيه ما نسميها اليوم بــ(الاكسسوارات)
فلا جناح أن لا تلبس العباءة ، التي تغطي جيب الإبطين ، وتلبس الثوب الذي يغطي الجيب ، الذي هو بين الفخذين وهو كالجلباب الذي يلبسه الرجل ، وهنا جاء دور الخمار كحجاب للشعر ، فحكم شعر المرأة بنفس حكم الجسد وليس من الزينة ، أما التبرج ......
البرج لغةً هو : (( الحصن ))
وهو : البيت يبنى على سور المدينة ، وعلى سور الحصن
وهو بناء مرتفع على شكل مستدير أو مربع ويكون مستقلاً أو قسماً من بناء عظيم (+) .
فعلى كل النساء أن ( يتـبرجنَ ) ببروج الستر لا ببروج الزينة ، لذا فنحن نطلب الرحمة لهذه المفردة ، التي تعني التحصن ،
ومفهوم المخالفة يعطينا معنى الخمار ، أي بعد أن كانت تتبرّج بالخمار لتحجب الناظر ، فلا يصح أن تقوم بالتبرج بالزينة ، إذ أن أصل معنى التبرج هو التحصن وإبعاد نظر الآخرين لها وذلك بالعباءة مثلا ، وحين نقول متبرجات بزينة ، يعطينا عكس المراد ، أي تكون عباءتها الزينة ،
كما جاء في قوله تعالى { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ }
أي النجوم اللامعة في السماء(20) ، والتي تتميز بلمعانها حتى عن باقي النجوم الأخرى ،
ولمّا قلنا إن الزينة هي ما يعلو البشرة ، فيعد كل ما تتحلّى به المرأة من أصباغ وحلي هي من ضمن التبرج بالزينة ، أي كل شيء ملفت للانتباه صوتاً أو صورةً أو رسماً .
ونأتي الآن على ما خصّ به نساء النبي ، في النص الذي جاء به تعالى متحدثا مع المسلمين في تعاملهم مع بيت النبي وزوجاته ، ذكر لنا سبحانه الحجاب كساتر بين ضيوف الرسول و نسائه ، وهذا ما يحبّذ فعله من قِبَل باقي نساء العالم ، ما لم يكن فيه الاستحالة ، كحكم عملها ودراستها ، لكن هذا الحكم إن كان على نساء العالم مستحبّا فعلى زوجاته (صلّوآله) واجباً لا استثناء فيه ،
ثم جاء تعالى بالحكم عليهنّ بما لم يكن لغيرهن من نساء العالم على وجه الأرض ، وهو أمره تعالى بحرمة العقد على زوجاته بعد وفاته ،
{ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } الأحزاب / 53
سنقف قريباً على أن المفسرين دون استثناء لأحدٍ منهم ، لم ينصفوا الرسول (صلّوآله) في كل الآيات التي جاءت عنه وعن حياته الشخصية مع زوجاته أو مع صحابته ، لأن معظم الصحابة كانوا من أصول البطون العربية ، ولدينا نحن العرب روابط العروبة والقومية هي الأعظم والأسمى عن بقية الروابط ،
فراح الخصوم يتهمون رسولنا الكريم بأبشع التهم ليس أقلّها أن الله أنزل الآيات على رغبات الرسول (حاشاه) ، كمَنعِ الآخرين من أن يتزوّجوا بزوجاته بعد وفاتهِ ، ورغم علمنا بأسباب النزول لهذا الآية ، لكن أحداً لم يبالي بالنظر بأسباب التشريع ، لأن التشريع أسبق من النزول ، أي إن الحكم معد مسبقاً ، لكن ما أنزله وجعله موضع التنفيذ هو ما ندعوه بـ(أسباب النزول) ، فسبب نزولها مثلا ، أن تكون رداً لمن أراد الزواج بإحدى زوجاته بعد وفاته(صلّوآله) لكن السؤال المهم ، لماذا منع الله جل وعلا نساء النبي من الزواج من بعده ، أو منع الآخرين من أن يتزوجوا بهنّ ،
المُطّلع على حياة الرسول سيفهم إن السبب الأكيد ، هو أن لا تتزوّج أيّ واحدةٍ منهنّ بعده ، وتَحْمِل ، ثمّ تنسب ابنها للرسول ، فقد عقد الرسول بثلاثة عشرة امرأة ، علاوة على ما يروى من إن واحدة منهن طلقها ليلة الدخول عليها ، إن صحّت الرواية ، وهذا يعني أن لا عصمة تامة ولا شُبْه تامة ، لزوجات الأنبياء ، كما ذُكِرَ عن زوجة نوح ولوط (ع) ،كذا زواجهُ من مطلقةِ زيد ، حيث ادعى زيد عدة مرّاتٍ ، أنه ابن الرسول ، يرثهُ كما ترث الأبناء الآباء (21) ، فكان لزاماً أن يضع الله(جل جلاله) نهايةً للأقاويل والظنون ، التي قد تأخذهم لمعاملة زيد معاملة الابن ، ويكون أبن زيد وريث النبوّة ، بل قيل لو أن زيداً لم يمتْ لاستخلفه الرسول من بعده (22) ، لا سيما وأنهم يتطلّعون منذ بدايات البعثة الشريفة ، لمن سيخلُف الرسول بعد وفاته ، كما خصّت نساء النبي أوامر أخرى أهمها تبرج الجاهلية الأولى ، التي فُهمتْ فهماً لعيناً ومنحرفاً ...
( تبرج الجاهلية الأولى )
ومن أكثر المفردات التي ظُلمت في فهمها هي التبرج ، لأن التبرج كما قلنا هو التحصن ، وما يدعو للسخرية ، صدور قانون بمنع التبرج ، وحين تطلع على بحثٍ ، مكون من عشرات الصفحات حول حرمة التبرج [ الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية " ( 2 / 684 – 691 )] ، فمن أفهمَ هؤلاء الخلق إن التبرج حرّمه الله ، إنما حرّم التبرج بالزينة أو تبرج الجاهلية الأولى ،
وتبرج الجاهلية الأولى الذي جاء في آية التطهير ، هو كالتبرج بالزينة الذي مرّ بنا آنفا ، وهو بنفس المعنى ، من لفت نظر الرجال أو الرعية ، لكنّ كل ما جاء به أهل التفسير ، مغالط لطبيعة الأحكام الإلهية ، ومهين لعزة النبي الأكرم ، فقد جاء تفسيرهم أن تبرّج الجاهلية هو العري (23) ، وأن لا تلبس فيه المرأة غير عقد اللؤلؤ ، فعلام يخص الله نساء النبي دون باقي نساء العالمين ، وإذا كان سبحانه بيّن حرمة ضرب الأرض بالرجل لإبداء الزينة ، فما الداعي لتخصيص آية تتوسع في حكمها ، أي إذا كانت الزينة محرّمة ، فما بالك باللؤلؤ والعري ، أمن العقل تقبل مثل هذا التفسير ، وهل يعلمون ما معنى قولهم هذا والعياذ بالله تعالى (24) ،
أنا كرجل قانون أفهم قاعدة لا شواذ فيها ، وهي إن مشرع القوانين حين يأتي بنص جزائي ، فلا بدّ أنه يتوقع أن أحداً ما ، سيقوم بتلك الجريمة أو المخالفة ، وإلا أصبحت المادة ميّتة في ساعة إصدارها ، فما بالك بأحكام الله(جل جلاله) ، لا بل والمصيبة الأكبر إنه طعن بهن حاشاه وحاشا رسوله الكريم ، مثال ذلك : نفترض إن المشرع أصدر قانوناً منع فيه النساء من الخروج دون حجاب ، لعلمه بقيام النساء بفعل ذلك ، لكنه أردف قائلاً ((كما لا يجوز أن تخرج زوجة المفتي الأعلى للديار ، عاريةً بين الناس ومرتديةً لعقد اللؤلؤ )) ، أيصحّ أن يطعنَ سبحانه وتعالى بزوجات النبي مثل هذا الطعن ، و هذا التفسير من أعظم الأدلة على إصابة بعض المفسرين بالتيه والبلاهة ، وقد ذكرتُ لك في المصادر عدد من المفسرين الذين جاءوا بتلك الآراء (23 و 24 و25 )
فما كان قصده سبحانه في هذه الآية .....
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } الأحزاب /33
هنا يخاطب الله(جل جلاله) نساء النبي ويأمرهنّ بالبقاء في البيت وعدم الخروج منه ،
فقد كانت للجاهلية الأولى أعرافاً تقضي بأن تركب زوجة أمير البلاد أو سلطانها على بروجٍ أو على الدواب ، لتأمر وتنهى الرعية ، وتستكشف أحوال البلاد و أعمال العباد ، وإذا ما قامت الحرب ، فإنها تقوم بإلقاء الخطب والقصائد ، لحثّ الجند على القتال والاستبسال في المعركة ، مثال ما قامت به هند بنت عتبة ، من حَثّ الجند في معركة أُحُد لمقاتلة جيش الرسول الكريم ، وهذا هو معنى تبرج الجاهلية الأولى ، أي الصعود على أبراجٍ عالية أو دواب للترفّع والسمو ، فبما أن رسول الله هو زعيم الأمة الإسلامية العربية الجديدة ، فحدّ سبحانه من أن يتصرفنَ كما فعلن زوجات السلاطين أيام الجاهلية ، وخير دليل على ذلك إن تبرج الجاهلية ، يجب أن يخالف البقاء في البيت ، فنص الآية يقول { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } لذا يكون التبرج ما يخالف البقاء في البيت ، أي وقرن في بيوتكن ولا تخرجن منها خروج الجاهلية الأولى ،
لكن تلك الحدود وإن أمر الباري زوجات النبي بها ، وألزمهنّ إلزاماً قاطعا ، في حياة الرسول أو بعد موته ، فمن المؤكد والمستحسن أن تتقيد كل زوجات الزعماء بذلك ، و تقتدي كل المؤمنات بها كَأخلاقيات .
المطلب الثالث
شبهة المحكم والمتشابه
والناسخ والمكرر
هذا المطلب ، ليس لتفسير معنى المحكم والمتشابه ، بل لدراسة أسباب وجودها ،
دستور السماء ، و كلام عالم الغيب والشهادة ، لمَ فيه آيات محكمات و أُخر متشابهات وأخر ناسخات و أُخر خيرٌ من أُخر ، إضافة للآيات المتكررة بصياغتها ، بدل أن يوضّح فيها جل جلاله ، ما التبس علينا في كثيرٍ من الأمور ، لقد اختلفت المذاهب حتى في الوضوء ورؤية الهلال ، وكل شيء ، لكنّ الجَمْعَ اتفق إلا من القليل ، أن في القرآن الناسخ والمنسوخ ، فبات من المسلّمات أنه(جل جلاله) نسخ خلال ثلاثة وعشرين سنة من البعثة النبوية ، آيات وجاء بأخرى خير من أخرى ، لكنّ عهدي بالله يمنعني من الانسجام بما تقدم ، فسنّته لا تغيير فيها ولا تبديل ، منذ خلق الخلق وحتى بعد فناء الخلق ،
قضية واحدة تحل كل ما أشكل علينا ، وهي أن الله(جل جلاله) ينظر لكل الكتب السماوية ، التي أنزلها على أنها كتاب واحد ،
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} هود /17
وسوف نسْترسل بالفكرة ، لترى إن كل ما جاء من النسخ ، هو في الآيات التي جاءت في الكتب الأولى ، وكذلك أسماها الله في سورة الأعلى ، الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى ، كذلك المتشابه من الآيات
{ َأفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } الأنعام / 114
الكتاب الأول هو القرآن { إليكم الكتاب } بعد أن فُصِلَ و تفصّل عن باقي الكتب ، والكتاب الثاني هو التوراة والإنجيل . ونلاحظ الكيفية :
ما أنزل الله(جل جلاله) من علاه إلا كتاباً واحداً ، ولكن لم ينزّل دفعة واحدة بل على شكل زبر أو أسفار ، وللتوضيح سنقول على شكل أجزاء ، كانت حصة الرسول محمد (صلّوآله) هو القرآن بالأجزاء الثلاثين ، العشرة الأولى والثانية جئن في الكتب الأولى ، أي مشتركات بيننا وبين الكتب السابقة ، ولكن جئنَ بصيغ مختلفة أو غامضة ، وفيهن ما تخص شريعة النبي محمد (صلّوآله) لأمّته من عبادات ومعاملات ، والعشر الأخيرة أطلق الباري عليهنّ اسم الفُرقان ، وهذه الأجزاء العشر تضمّنت خطاباً مباشراً مع أمة النبي ، و تَـكْـشفُ كل ما تعرّض له الرسول من أذى سواء على يد قريش أو اليهود والنصارى ، وتطرقت لبعض المنافقين الذين أعلنوا إسلامهم زيفا ليتجسسوا على الرسول ، بل ومنهم من كانت مهمته قتل الرسول ، كبنائهم جامع لقتل الرسول وأصحابه ،
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} براءة/110
وأحاطت هذه الأجزاء العشرة ، بكل تفاصيل حياة الرسول حتى ما بَدَرَ من بعض زوجاته ، ومن بعض أصحابه ، كمُناداته من خلف الحجرات ، أو من يرفعوا أصواتهم على صوت النبي ، وهذه الأجزاء تُسمّى (الفرقان) ، أي ما اختلفت وافترقت به أمة محمد (صلّوآله) عن باقي الأمم ، ونستعرض القضية بشكل تفصيلي .
الفرع الأول
المحكم والمتشابه
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ }آل عمران/7
اشتمل القرآن على آياتٍ سبق وان جاءت في الكتب السابقة لذا دعاهن الله بــ(المتشابهات) ، و آياتٍ أخرى هن ( أم الكتاب ) ، أي لم يسبق للآيات المحكمات ، أن ورد ذكرهن في الكتب السابقة ، وبالتالي فهنّ أمّ الكتاب ، فأمّا الذين في قلوبهم زيغٌ ، فيقولون لقد سرق رسولكم (حاشاه) هذه الآيات من التوراة أو الأنجيل ، وأمّا الراسخون في العلم فلا يعنيهم هذا التشابه ، لأنهم يعلمون إن كل الكتب السماوية تصدر من سراجٍ واحد ، بقيَ أن نعرف لماذا قال سبحانه { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ }
المقصود بالتأويل هنا ، إرجاع أصل الآيات إلى الكتب السماوية السابقة ومرجعيتها ، و أيلولة كل آية إلى أي كتاب سماوي سابق ، فلا يقصد هنا تفسيره ومعناه ، وللتوضيح دعنا نأخذ مثالا حقيقياً لذلك :
الآية { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } الأعراف/40
جاءت هذه الآية في الكتاب المقدّس بنفس الشكل والمضمون تقريباً ، والراسخون في العلم ، يقولون آمنا بالقرآن وغيره من الكتب السماوية ، وهذه الآية دليل على إن القرآن والإنجيل نزلا من عند الله ، أي يتخذونه دليلاً إيجابيا لصالح القرآن ، فكلٌ من عند الله تعالى ، والذين في قلوبهم زيغ أرادوا أن يفتنوا المسلمين ، بأن قالوا إن القرآن جمعه الرسول حاشاه من الكتب السابقة ، لِيفتنوا المسلمين الجُدد و أرادوا فتنةً أخرى ، بين المسلمين والكتابيين أيضاً ،
= { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ } فبعد أن قاموا بتحريف التوراة والإنجيل ، عاد من المحال على بني البشر ، التعرّف على ما كان في التوراة والانجيل ، والتعرّف على كل آية ، هل إنها كانت في الكُتُب السابقة أم لا ، و بما ان الله هو من أنزل الآيات سواءً في الكُتُب السابقة ، أم القرآن ، فهو بالتأكيد وحده من يعلم تأويله ، ومن ثم أيلولة آياته ،
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } البقرة /146
وأرى الآن فرصة للكتابيين لكي يتعرفوا على الآيات التي لاشك بصحتها في كتابهم ، من خلال القرآن وليس العكس ، أي إذا كان في كتابهم آيات بذات المضمون الذي جاءت به آيات القرآن ، فيؤمنون أنها من عند الله لاشك ، وما لم يكن لها من شبه ، فعليهم التحقق من صحتها ، أمّا التي تختلف بشكل كلي عن سنة الله ، والتي أوضَحَها في القرآن ، فلا مناص أنها ليست من الكتاب .
فما الذي أشكل علينا ، بعد تفهم أن الله قصد الكتاب على أنه كل الكتب ،
الجواب بكل بساطة هو (الاحتلال) ، أي قيامنا باحتلال وتملك الدين والكتاب ، حتى أصبح القرآن وكأنه من صنع العرب ، وجاء في العرب وتحدث عن العرب ، لذا ابتعدنا عن تقبل ، أنه يشير الى الكتاب ، ويعني كل الكتب مرّة والتوراة مرّة اخرى وهكذا (26) ، فلاحظ قوله
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ على رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ }
لأن صحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، كلها عند الله كتاب واحد ، أنزله على شكل زبر أو أجزاء أو فصول ، كما أطلق عليها الله جل وعلا ، فتدبر قوله تعالى { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } هود / 1
ثم تدبر قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ } عمران / 8
هل ترى التفاوت بينهما .....
الكتاب الأول في سورة (هود) قصد به تعالى كل كتبه السماوية قبل إنزالها على بني البشر ، فجعله على فصول ، فصل منه لموسى ، وآخر لداود ، وآخر لعيسى ، أما القرآن فيشمل أجزاءً كثيرة من كل الكتب السابقة إضافة لفصل جديد أطلق عليه الله اسم الفرقان ،
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام} آل عمران/4
و لمزيدٍ من التوضيح نقول :
ترى سبحانه ، نادى اليهود بأهل الكتاب ، ونادى النّصــارى بأهل الكتاب ، وناداهم معاً بأهل الكتاب، ولـم يناديهم بأهل الكُتُب وتمعن في قوله
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَـلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ }
جاء التفصيل بأن هذا الكتاب نـُزّل على أممٍ اختلفت فيما بينها بالمعاجز والأنبياء والأحداث أي بالتفاصيل ، ثم تابع قوله تعالى ... {ِكتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } هود / 1
فلو أبدلنا ( ثم ) بــ(و) لكان التحكيم والتفصيل أصبحا في آن واحد وأصبح المقصود بالكتاب هو القرآن ،
لكن ( ثم ) تعني زمناً طويلاً ومختلفاً ، و لا تعني كما جاء في رأي المفسرين (27) الترتيب التشريعي ، لأن القرآن ما هو بالفصول من حيث الترتيب ، وإن كان المعنى الترتيب التشريعي ، فما ذاك بالمنقبة التي يذكرها الله بآيةٍ قرآنية ، فكل دساتير الأحزاب والدول مرتبة تشريعياً ، وما هي المعلومة الجديدة التي أضافتها هذه الآية ، وما نفع انزالها ، وكأنهم يقولون أن هذه الآية تعني (أن القرآن فيه الشريعة ، والدستور السماوي هو دستور سماوي) ، والآن نعود لقوله تعالى
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ }آل عمران/7
ففي قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) نلاحظ أنه سبحانه جاء بـ(ما) ولم يأتِ بـ(لن) أو (لا) الناهية بل بـ(ما) النافية ونفيها غير مؤكد ،
فلماذا ؟ ..... لأنه سبحانه إذا أتى بـ(لن) أو (لا) وكان قصدوه القرآن حصل ما يأتي
1 – منع من تأويله بشكل قطعي ، أي حرّم علينا التأويل ، ولن يأتي من البشر من يحسن تأويله حتى الرسول الكريم .
2 – أحدث خللا في ماهية القرآن ، وبات كالطلاسم .
وبهذا فالله لم ينه حتى عن تأويل الكتاب ، سواء كان المقصود في الآية (القرآن) أو (أيلولة آيات القرآن) للكتب الأخرى ، بل قال ما يعلمه غيري ،
وهذا دليلُ عمق مَـفاهيم الــكتَاب لا دليل منع التّـعرف على مفاهيمه ، وأصبح الأمر خلاف ما جاء به كل المفسرون ،
كما أنه لا جدوى من الاطلاع الآن عــلى كتبهم لأنها إن صحّت فــي التوراة والإنجيل آية من الكتاب ، فهي عندنا بالمتشابهات ، وما لم يوجد فيهن فهو عندنا في المحكمات ، وعلى نفس المنوال نقول عن الناسخات من الآيات ...