أسبابُ الغموض و أشْكَالهِ
الفرع الأول – طريقة لحفظ القرآن من التزييف والتحريف .
ليس الله جل وعلا من يحتاج لطريقةٍ لحفظ كتبهِ السّماويّة ، لكننا نحنُ من نحتاج لذلك ، كي لا يعمد فريق منّا لفعل ما فعله الكتابيّون من قبلنا ، ولا تَقُل لي إن القرآن حفظه الله وملائكته دون الكتب السابقة ، فكل الكتب هي كتب الله ، وكل الآيات آياته ، لكنه سبحانه جاء بآيات مشابهة للآيات التي سبق وأن حُرّفتْ في التوراة والإنجيل ، و أضفى عليها الغموض ، كي لا تقم أمّة الرسول محمد (صلّوآله) بما قامت به أمّة موسى وعيسى (عليهما السلام) من فعل ، فيحرّفون الكلم عن مواضعه ،
وخلاصة القول إن القرآن حُفِظَ عن طريق الآيات لا عن طريق الشخصيات ، فلا حـافـظ القرآن ، ولا أمــين ســر الوحي ، ولا حــبر الأمــة ، ولا عشرات المناصب والألقاب ، يمكنها حفظ الكتاب السماوي وعلى مدى التأريخ ، لولا آيات الله التي أضفى عليها الغموض ، لكيلا يعمد اليهود و من لفّ لفّهم لِفعلِ ما فعلوه قديماً ، وما لأحدٍ من فضلٍ على الله بحفظ القرآن ، وهذا الغموض في المفردات والنصوص خير دليل على عدم ثقة الله بنا من جديد ، لهذا جاءت الآيات التي أطلق الله عـليهن بــ(المحكمات و المتشابهات) كما جاءت الآيات (الناسخة) ،
ولأهمية الموضوع ســـنتنَاوله بشيء من التفصيل ، في مطلب خاص بــ( شبهة المحكم والمتشابه والناسخ و المتكرر ) ، ولهذا الغموض أرقام سرية سنتوصل لها ، لئن أردْنا حقاً بذل شيء لأُخرانا ، فسبحانه لم يجعل القرآن طلاسم ذات شفرات غيبية ، إنما ترك لعقولنا ولمن يريد الوصول والتبصر بآياته ، أوسع الأبواب و أعظم الأنوار لفهمها ،
{لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الواقعة/79 ، أي الذين تطهروا من الأطماع والأرجاس ونوايا تحريف مفاهيم القرآن ،
لذا فالنصوص أتت على منوال مدرسة الفن للناس ، ولم تأتِ كمدرسة الفن للفن ، إلّا حين وجدَ الله فينا انحراف الذمة ، ولنا التبصر و الوصول إليها ، خاصة بعد انتفاء العلة والغاية من الغموض ، فقد ثَبُتَ القرآن في الأذهان والكتب ، وسائر الأدوات والآلات الحديثة ، ومن المحال أن يتسنى لشخصٍ بل لأممٍ أن يحوز تزويره ، وكل هذا بفضل ما علّمه الله سبحانه للإنسان من علومٍ ما كان مدركها إلا بفضله ، {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} العلق /5
وبفضل ما وضعه لنا من مواد أولية لصنع ما صنعناه ، واكتشاف ما اكتشفناه ، ورغم كل ذلك ، فهم سلكوا الطريق القديم ، لتحريف الكلم عن معانيه الحقيقية ، أي انهم بالمكر ، سبقوا الاكتشافات العلمية بكثير ، والله(جل جلاله) المستعان .
الفرع الثاني - عدم اكتمال الأحداث في القصص التي جاء بها القرآن .
وهذا السبب تشترك فيهِ باقي الكتب السماوية ، فحين ذَكَر الله(جل جلاله) لنا قصص الأولين من الأنبياء ومن عاداهم والصالحين ومن جار عليهم ، أقتطف من تلك القصص الحكمة والموعظة ، فهما أساس اختياره لتلك القصص ، وبالتالي اختطف مقوّمات القصّة وباعد بينها ، أي عناصرها وخصائصها التي نعرّفها ، ولم يسرد مكمّلات الأحداث وتفاصيلها ، إلا في آيات وسور أخرى ، لكي لا يكون كِتَاب الله محض قصص وروايات ، كما إن هناك الكثير من قصص الأنبياء ، لم تذكر في القرآن ، كما بيّن الله(جل جلاله) ذلك { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا }النساء/ 164 ، لأنه سبحانه وتعالى لم يرَ مدعاةً لذكرهم ، أمّا لتشابه الحكمة والموعظة فيمن ذكروا في القرآن ، أو لأنّ ما مرّ بهم ، لا ينسجم وما مرّ به رسولنا الكريم مع قومهِ ، كأنْ يكونوا قد أدّوا رسَالاتهم ، دون أن يُتّهموا من قومهم بالكذب والجنون والسحر ، وهذا ما عناه تعالى بأحسن القصص { نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } يوسف/3 ، أي أقربها لما تمرّ به مع قومك من معاناةٍ ، إذ مرّتْ بها الأنبياء من قبلك ،
{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } هود/120
وعلى هذا الأساس ، ذُكر موسى مرّات عديدة ومتعددة (136) في القرآن لتشابه ما مرّ به الرسول من أذى ، مع ما مرّ به موسى النبي ، و كذلك لأنّ اليهود كانوا الأكثر تمرّداً ومحاربةً لنبينا ، وبالرغم من هذا التكرار والكثرة ، في ذكر الأحداث التي مرّت بموسى ، لكنك تجد الغموض يزداد كلّما ذُكرت أحداث وتفاصيل أكثر ، وهذا ما جعلهم يعتقدون بأنها فجوات لا بد من سدها ، في قصص الأنبياء أو الأحداث والمفردات الغامضة ، حتى التي تخاطبهم بها ، وهو نفس السبب ، الذي دفع رجال الدين من تلك العهود لسدّها ، باختلاق حكايات تكمل الصورة ، ليبيّنوا لرعاياهم أنهم الأعلم بالكُتُب السماويّة ، فلا يقعون في حرجٍ إذا سألهم من سائل ، لكنّ تصرفهم هذا أدى لنتائج وخيمة جداً ، أهمها انفلاق مذاهب جديدة من تلك الأديان ، وفرق من تلك المذاهب ، إذ اختلفوا حتى على الإفك الذي اختلقوه ، وبالتالي جاءت لنا جاهزة من اليهود وغيرهم ، ونحن من نأثم إذ نعمدُ لتفسير القرآن العظيم ، على أساطير اليهود وآراء الأعاجم ، والحقيقة إن ما من فجوةٍ أو خلّةٍ أو عوزٍ في كل القصص ، التي جاءت بها الكُتُب السماوية ، إنما جاءت كاملة مترابطة من حيث الحكمة والموعظة ، ومحاربة لأن تكون محض قصص للمؤانسة ، كذا ما سيمر بنا من قصة آدم وإبليس ، من أنها جاءت متكاملة وغير متكررة ، كما ظن من ظن ذلك .
الفرع الثالث - وضع مفاتيح الكثير من الآيات بيد الرسول .
باعتباره سبحانه قطع علاقته ببني البشر ، وختم سفراءه إلينا بالرسول الكريم ، وأنهى كتبه إلينا ، بكتابهِ الأخير ، ولأجل أن يحفظهُ أشدّ الحفظ كما ذكرنا ، وضع مفاتيح الكثير من الآيات بيد الرسول دون غيره ، لذا فإن هناك الكثير من الآيات التي لا يمكن تناولها بالتفسير ، إلا نقلاً عن الرسول (صلّوآله) خشية التحريف ، وخصوصاً سبب نزول تلك الآيات ، أي يمكننا القول إن هناك صورة أخرى من الغموض ، لا تتعلق بالمفردات ولا بالنصوص ، بل إن كل شيء واضح في النص القرآني ، لكنّ سبب نزوله ينقله إلى معنى آخر ، ربما خلاف المعنى الظاهر في النص ، كما إن هناك صورة أخرى ، ووجه آخر من الآيات يختلف تماماً عن كل ما تقدم ، وهي الآيات التي لا يمكن فهمها لا كمفردة ولا كنص ، فتلك النصوص غامضة بشكل مطلق ، من حيث المفردات ومن حيث النصوص ، ومن حيث أسباب النزول ، وفي ما أعتقده إنها من تركة النبي الأعظم ، فإذا كان لكل نبيّ تركةٍ من المعجزات التي أعطاها الله له ، فلِرسولنا الكريم ، القرآن الذي سيتركه لخليفة الأرض ، وفيه آيات لا يحل شفراتها إلا خــــليفة الله(جل جلاله) ليس أقلها الأحرف الموجودة في مـــــقدمة السور القرآنية .....
كـ( الم و الر والمر و كهيعص و ن و ق و غيرها ) ، وهذه التركة لا بد وانها محفوظة في تابوت العهد ، فلكل نبيٍ أثراً فيه ،
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } البقرة/248
راجع كتابنا (هوية يهودي) الجزء الثاني هيكل سليمان ، أو راجع مطلب الشريك المجهول بخصوص التابوت .
وبعد .... فبالمقابل ، سحب المفاتيح من المنافقين وأهل الأغراض الدنيوية ، لذلك تراهم كلما أخذوا من غير ما جاء به الله ورسوله(صلّوآله) ، للتخلص من غموض النصوص القرآنية ، يصلون لأحكام تخالف وتعاكس ما أنزله الله تماماً ، فكم ادعى العثمانيون أنهم أهل السنة الصحيحة ، وأسموا سلاطينهم مختلف الأسماء ، لكي يداهنوا المسلمين بتلك الأسماء ، على أنهم رموز العدل والمساواة ، لكننا نراهم وصلوا لأسوء العهود ضلالاً وظلاماً ، حتى قتل الحكّام بعضهم بعضاً ، وجاءوا بأحكام الخازوق وفقع العيون ، التي أخذوها من قوانين حمورابي اللعينة ، و هو ذات ما فعله اليهود وغيرهم ، لكشف الغموض .
الفرع الرابع – خصائص النصوص الإلهية .
أي إن من أسباب غموض النصوص القرآنية ، هي خصائصها كنصوص إلهية .
لا جدال إن كلام الله عزوعلا يرتقي عن كلام البشر مراتٍ ومراتٍ ، وإن أراد سبحانه من كلامه مخاطبتنا بمستوى ما نفهم ، فيبقى علاء الله لا يجرّده استخدامه للغةٍ ما أو تعبير معين ، المشكلة تبقى على من يريد أن يفهم آيات الله كيف له أن يرتقي لفهمها ، فلا غير الرُسُل يعقلون علّيته ، ولا غير الأنبياء يفهمون ما يريده كما يريده ، لا كما يريده كل طامحٍ وطامعٍ من عباده ، لكننا في موضع العتمة ، حيث لا نصّ لرسوله ولا قرينةً من علمائه ، يمكننا الاستدلال بما آتانا الله(جل جلاله) من مدارك ، فما أن نسمو بفكرنا ، فلسوف ندنو ولو بقَدْرٍ بسيطٍ ، يعيننا على تدبر البعض من آياته ،
ومن خلال سلسلة يوميات الفتى الأوّاب أمكنني أن أرصد الشيء القليل من تلك الخواص ، وهي :
أولا – خاصية التشريع و خاصية التنفيذ .
لعزة الله في حديثه مع خلقه خواص ، فسبحانه لا يجابه العبد بردّ فعلٍ مباشرٍ حال قيامه بأي تصرف ، ما لم يبين له سِبقَ التشريع ،
وبما إنه سبحانه يأمر ، فتقوم ملائكته بتنفيذ الأمر ، ترى إن الآيات التي تأتي بالفعل ( قال ) مضافاً له الضمير ( نا ) أي ( قلنا ) تعني التنفيذ للأمر ( أي ملائكته ) أمّا لو جاء بالفعل (قال) مجرداً ، فهذا يعني التشريع الأسبق للفعل ، وبماذا سيعاقب ، أو ماذا سيكون الرد ، ولنا أمثلة ستمر بنا في المحور الثاني والحوار الذي دار مع إبليس اللعين .
ثانيا – القول البليغ في الصّور البلاغية وفق المعيار الصادق .
عُرّفتْ الصــــورة البلاغية قــــــــــديماً بأنها [ استعارة قائمة على التماثل و التشابه بين الطرفين المشبه والمشبه به ] (6)
وتُعْرف الآن بمفهومها العام [ تمثيلا للواقع المرئي ذهنيا أو بصريا ، أو إدراكا مباشرا للعالم الخارجي الموضوعي تجسيدا وحسا ورؤية ] (7)
و القول البليغ هو القول الذي يصل القلوب ، ويترك أثراً عميقاً في النفس ، لدى الآخرين وجاء في الآي الكريم { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } النساء 63
لكنّ الأدباء بجميع الوانهم الأدبية ، حين يأتون بصورةٍ بلاغية ، فلا يعنيهم صدق المعيار في التشبيه والمحاكاة ، وما يهمهم هو وصول القول بصورة جديدة وملفتة للانتباه ، لأن الصورة البلاغية غالباً ما تعاكس مطلوب القول الصادق ، أمّا عندما يصوّر الباري لنا صورة بلاغية ، فسبحانه يختار القول البليغ والمؤثر في النفس وبصورة متناهية في الصدق ، أي إن الصدق يجب أن يحكم القول والصورة ، لذا تكون المفردات التي ينتقيها في الآية ، مفردات نعجز عن الإتيان بمرادفاتٍ لها ، وينبغي أن تكون هذه الخاصّية ، مما يساعدنا على فهم النصوص بدقّة متناهية ، لكننا وضعنا معايير ، سببت زيادة في غموض النصوص كمعيار فهم القرآن بالقرآن ، وسوف نتحدث قليلاً عن هذا المعيار في الفصل الخاص بضرب المرأة ، وعلينا أن نعرف إن هذا الإشكال وقع فيه أول من وقع اليهود ، ومثال ذلك قياسهم لفعل الشيطان بفعل إبليس ، وقالوا إن الشيطان هو إبليس ، وكم خلق اليهود من أكاذيب بسبب كذبةٍ لم يبالوا بها ، فبعد ذلك احتاجوا أن يدخلوا إبليس في الجنة فكذبوا وكذبوا ، حتى غدت أسطورة مضحكة ، وهذه الخاصية تدلنا على أن كل المنقول عن كلام إبليس أو الكافرين او المنافقين ، هو عن لسان حالهم ، لا عن نص كلامهم بشكل مباشرة كما نوّهنا ، وذلك لسببين
أ – أصبحت الآية منسوبة لإبليس أو للكافرين والمنافقين ، و ليست من كلام رب العالمين ، فكيف نتقبل أن يكون النص ، الذي قاله إبليس هو نفسه النص الذي جاء في القرآن .
ب – من المؤكد أن يقول الكافر والمنافق على لسانه ما ليس في قلبه ، وهذا ما يخالف الصدق في القول ، وحتى حين يقول أحد منهم الصدق نادماً أو متحسراً ، فلا ينقله سبحانه أيضاً بشكله المباشر ، لأن لسان القرآن لا يخاطب لسانهم ، بل ما معناه و ما خلاصته (لسان حالهم) .
ثالثا - القول بما ندّعي ، و ما ندعو من أسماء .
وهذه الخاصيّة أيضا من الخواص التي ينبغي أن تعطي معنى أقرب لفهم النص ، لا لمزيد من الغموض ، سواء ما ندعي أو ما نعلم ، ومثال ما ندّعيه ، قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ }النساء/ 136 ،
فيعني سبحانه : يا أيها الذين تدّعون أنكم آمنتم بالله ، آمنوا حقاً بالله ، وكذلك حين يخاطب أهل الكتاب فيعني : يا من تدعون أنكم أهل الكتاب ، و يا من تدعون إنكم من بني إسرائيل ، كما نادى اليهود مريم يا اخت هارون ، أي يا من تدعين إنكِ أخت هارون ، راجع (المطلب الثاني الفرع الثاني) ، وكثيراً ما خاطب أهل الكتاب بما يدعون من أرقام و أعداد ، وبما أنهم قاموا بتزييفها ، فلن يكررها الله(جل جلاله) علينا لأننا سنقوم بنفس ما قامت به اليهود ، أي من المحال أن نجد في القرآن أرقاما واعداداً حقيقيةَ مرّت على اليهود وقام اليهود بتحريفها ، ثم يعيدها لنا في القرآن ، لأنّ الأرقام لا تختفي بالغموض ، الذي نشده الله(جل جلاله) في القرآن ، ولو تمعّنّا في نصوص القرآن لوجدنا ، أنه تعالى نادانا كذلك بأهل الكتاب ، فسبحانه يتعامل معنا على حدٍ سواء ، وإلا ما نفع أن يضرب لنا مثلا ، ولمّا كان مشركو قريش يدعون بأن ما يقومون به من تعبّد للأصنام هو دينهم ، الذي وجدوا آباءهم وأجدادهم عليه ، فخاطبهم في سورة الجحد بأن لكم دينكم ولي دين ، لذا فان مناداة الله لهم بـ( دينكم ) ، ما هو بإقرار منه بأنّ لهم دين أنزله سبحانه ، إنما بموجب ما يدعون من مراسيم التعبد ،
أمّا تسمية الأسماء والأشياء بما نعلمها ونفهمها ، فالأمثِلَة كثيرة ، منها أسماء الأنبياء كـ(عيسى المسيح) ، فلم يعرف النصارى اسم عيسى ولم يَرِد في الكتاب المقدس مطلقاً ، إذ كان النصارى يعرفونه بـ(يسوع) ، والعرب كانوا فقط من يعرفوه بهذا الاسم ، ويعرفون أن ابن مريم الصّديقة يسمّى عيسى ، ولربما كان السبب اختلاف اللغة ، فلمّا كانت اللغة اليونانية التي كتب فيها الإنجيل قبل البعثة الشريفة ، هي من اليسار إلى اليمين والعربية من اليمين إلى اليسار ، فلاحظ جيداً حين يُقرأ اسم ( يسوع ) من اليسار إلى اليمين سيصبح ( عوسي ) أي حين يكتب يسوع باليونانية ، فإن اليونانية لا تعتمد المزج بين الأحرف و لمزيد من التوضيح لنكتب اسم (يسوع) بأحرف إنجليزية ( ISSUE ) لكن العربي سيقرأها من اليمين إلى اليسار ، لذا تكون وبشكل واضح عيسى ،
هذا وإن كل الديانات السماوية الإبراهيمية ، كتبتْ أول ما كتبتْ ، بلغات تبدأ من اليمين إلى اليسار ، لكنها سرعان ما كتبت بلغات متعددة ، كان أخطرها التي لا تعتمد المزج بين الأحرف ، لأنهم سيعمدون لتحريف الأحرف عن مواضعها ، وليست الكلمات فقط ، فيما حافظ القرآن على اللغة التي أُنزل بها ، وحين خاطبنا الله سبحانه ، ولأجل أن نفهم من الذي يعنيه بخطابه ، خاطبنا بما هو معروف لدينا ومفهوم عندنا ، كما إن آدم وزوجه لمّا هبطا للأرض وسكناها ، فقد أصبح لديهما اسم آخر عرفته اليهود ، وهكذا بقيّة الأنبياء من قبل ، أما أن نقوم بترجمة الاسم العبري لمفهوم عربي ، فهذا غير مقبول ، كمن يقول إن ( إبليس ) سُمّي بـ( إبليس ) لأنه أبْلَس من رحمة الله ، أو إن نوح سمّي بنوح لأنه بكى وناح ، فهي وإن كانت أسماء معرّبة ، لكنها تبقى أسماء أعجمية ، عُرفتْ عند العرب بهذا الشكل وهذا المعنى ، فهناك من يُشكل على أن القرآن وردت فيه أسماء أعجمية ، لكنه تعالى ذكر أن القرآن أُنزل بلسانٍ عربي ، وهذا هو الفرق بين لسان العرب واللغة العربية ، فاللسان العربي ، أقدم من قواعد اللغة بمئات بل بآلاف السنين ، أما قواعد اللغة العربية ، فوضعتْ بعد القرآن( ، وما أعنيه إن القرآن جاء مطابقاً للسان العرب وما يفهموه ، سواء بالأسماء أو حتى بالصور البلاغية ،
ورغم محاسن الغموض التي أرادها الله (جل جلاله) ، لكن الجاهلية واليهود لم يَفُتْهُم استغلال ذلك ، فالجاهليّة جلدوا المرأة ووضعوا السياط بيد القرآن ، وكفّروا وقتلوا ووضعوا بصمات القرآن على كل السيوف ، أما اليهود فلعبوا أعظم أدوارهم في زج رواياتهم المختلقة ، كما زجّوها في كتابهم و كتاب النصارى (الكتاب المقدس العهد القديم والجديد ) .
و القول بما ندّعيه من أسماء و ما نفهمه من علوم ، بينه الرسول بما نسب له من حديث (صلّوآله) ، {نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ، ونكلّم الناس على قدر عقولهم} وهو خير تأكيد لقولنا آنف الذكر ، لكنه حاشاه أن يخبر الناس ، ما يخالف الشرع ولو بذرّة واحدة ، على أساس أنهم لا يستطيعون فهمَها إلا بهذا النحو ، فتفسير الآي وضعه الله بيد رسوله ، لنعرف نحن من سينهج نهجه بالتفسير ، ومن ينحدر للتغيير ، ومن يريد للإسلام العيش ، ومن يريد قيادته كالجيش .
رابعا – أزليّة الآيات و أزليّة الأحكام .
نعني بالأزلية اللا بداية واللا نهاية ، وهذا ما لا يمكننا الوصول بالفكر إليه ، لأننا خلقنا من الفناء و إلى الفناء ، و لكن كان علينا دائماً ، أن نعي الأزلية ، في دين الله وفي آياته وفي أحكامهِ ، فما لآياته مَوات ، ولا لأحكامه تغيير ولا تبديل ولا تحويل ،
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} الفتح/23
{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} فاطر43
وسوف نقف على إن الأحكام ما تغيرت ، بل تغيّرت أحوالنا ، ووصولنا إلى شرف التعرف على أحكامه سبحانه ، وهذا الشرف ما ناله الكثير من الأقوام البائدة والسالفة ، لا بل والمعاصرة أيضاً ، لأنهم كانوا أدنى من الوصول والحصول على النظام السماوي الطّاهر ، وكان فريق من الأعراب من أولئك الذين ما استحقوا الوصول إلى طهارة الأبدان والنفوس ، فجاء قوله تعالى فيهم :
{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } براءة/ 97
وبالتأكيد طَفِق العرب يتهمون أهل البادية ، و أهل البادية يتهمون البدو الرحّل ، والحقيقة المُرّة التي لا أحب الوقوف عليها كثيراً ، أن الأعراب هم المتمسكين بالعروبة على الدين ، أي يفضّلون القومية العربية على الدين الإسلامي ، فلفظ الأعراب والأحباش و الأتراك ، يطلق حين نُرجِع الناس للقومية التي ينتسبون لها ، ثم أسرعنا لتقسم العرب إلى هالكة و عاربة و مستعربة ، للخلاص من أصولنا المعيبة ، وما فعلناه بالأنبياء قديماً ، فـ(هود وصالح) نبيان عربيان ، من قومين عربيين (عاد و ثمود) ونحن من أصولهم ، وإن هلكا فقد بقي منهم من ناصر صالح و هود عليهما السلام ، ومن لم تلحقه الهلكة ، وترى الحدود التي فرضوها من رجم المرأة ، وضربها والانقاص من قدرها ، حدود كذّب من نسبها لله ورسوله ،
وقوله تعالى { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } يس /10
والآية { مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } ، جاءت للإنكار (9) إنكاراً توبيخياً ، وفي الاصطلاح ، الإنكار هو : أن تنكر على المخاطب وتستهجن منه ما حدث ليتنبه السامع حتى يرجع إلى نفسه ، فيخجل و يرتدع ويعي الجواب (10) ،
أي أحقّاً ما أُنذر آباءهم فهم غافلون ، أم تدعون ذلك ، لأن الله تعالى أنذر كل آباءنا من آدم ونوح وهلمّ جرا ، فكيف عاش بينهم إسماعيل النبي (ص) ، وكيف عاش النصارى واليهود حولهم ، ولم يؤمن من بينهم من أحدٍ بالله الواحد ، كيف حكم الله علينا بحكم الكفر بأنّ { حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } قبل أن يختبرنا وينذر آباءنا ، لكننا اخترنا أن نبدأ من جديد ، وقد عَامَلَنا الله على هذا الأساس ، عسى الله أن لا نصل ، إن لم نكن وصلنا فعلاً ، لمثل نهاية الآباء من عادٍ وثمود ،
وأهم ما نشير له في هذه الخاصيّة ، هو أن كل الآيات التي جاءت في القرآن بخصوص تعامل أمّته سابقا معه ، كالتعدي على الرسول الكريم ، وعدم إعطائه التوقير المناسب لشخصه ، آيات حدثت وما زالت تحدث ، أي أن من يرفع صوته على صوت الرسول ، مازال وإلى يوم الساعة موجوداً بيننا ،فمن الجحود أن نقول إن الآية ماتت مع من مات ، لأن من قصدهم الله تعالى بهذه الفعلة قد ماتوا ، فلوا كان قصده سبحانه عليهم فقط ، لما أوردها كآية سماوية تتعايش معنى إلى يوم الدين ، وهذا شأن كل الآيات وكل الأمثال والعبر التي جاءت في القرآن الكريم .
خامسا : استخدام ذات المفردة ، لمعانٍ مضادّةٍ و مرادِفَةٍ .
كل الذي سنبينه من احتلال الجاهلية لآيات الله سبحانه ، كان في عدم فهمهم لهذه الخاصية ، فسبحانه وتعالى له جناحين في إيراد المفردة ، بل ثلاثة و أربعة ، فمفردة ضرب ، لها معنى الحجب والاقتطاع و القطع و(اللكم) أي الضرب بالحركة ، وكلٌ يرى الآيات في عين طبعه ، كذلك مفردة سلطان وهي من أهم المفردات التي أستعملها الله(جل جلاله) ، كما سيمر بنا في التفريق بين الكافر والمشرك (شبهة الشيطان) ،
وكما وردت كلمات ثابتة في معناها ، لكنّه سبحانه وتعالى أضاف لها ما يخالفها ، ليعكس معناها كـ(الشجرة) ، كالشجرة المباركة و الشجرة الملعونة ، والأمثال على هذه الخاصية كثيرة ووفيرة جدا ، بل تكاد لا تخلو آية منها ، علاوة لاستعماله المباشر للمضادات ، من الأفعال والأسماء ، وكما نرى في أسماءه الحسنى ، ما هو للعقوبة وما هو للرحمة ، راجع (شبهة أجنحة الملائكة) ....
المطلب الثاني
آياتٌ احْـتلتها الجاهلية
لستُ مع هواجسي التي تدعوني للتفكير بإن رسالة السماء تأخرت عن العرب أكثر من ألفِ سنةٍ ، بسبب تخلفهم ، وعدم قدرتهم على حمل الرسالة السماوية كما حملتها باقي الشعوب ، فبني إسرائيل ورغم أنهم حُمّلُوا رسالة السماء ، وأصبحوا من الشعوب المختارة عند الله سبحانه ، إلّا أنهم وبعد آلاف العقود ، وبعد مئاتٍ من الأنبياء الذين أرسلهم الله مبشرين ومنذرين لبني إسرائيل ، وصلوا لمستوى الحمار الذي يحمل أســــفاراً ، ومــن اعـــــتدى وحارب أحـــكام الله(جل جلاله) ، باتـــــوا قردة وخنازير ،
كما إني لا أستطيع أن أفخر بأن الله سبحانه وتعالى ، اختار لنا أحبّ أنبياءه وأقربهم إلى قلبه ليكون نبيّنا ، لأنّ القوي لا يُـرسلُ إلا للعَصِيّ ، والصبور لا يُـرسل إلا للكَـفور ، والأمّة الوسط التي نَرتجز بها (11) ، ماهي إلّا أن أم القُرى أصبحتْ زمن الرسول الكريم أوسط بلدان العالم ، في المكان وفي الأجناس ،
فقد سكنتها مختلف القوميّات والأديان ، كالأحبَاش والفرس والهند والسند ومن اليهود والنصارى والزرادشتية ، مما جعلنا أمّة وسطيّةً للتبليغ ، وهذا سبب تسميتها بأم القرى ، أي (أم الدول) ، ولو أردنا أن نضرب مثالاً مع الفارق ، نقول : لو كانت الكرة الأرضية كرأس بني آدم ، لكانت المنطقة من مكة إلى بيت القدس هامته التي يمسح عليها في الوضوء ومكة أم رأسه ، ولو كانت وجههُ ، كانت مكة مكان فمه ، { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } الأنعام /131
وتدلنا هذه الآية على إنهم قديماً يطلقون تسمية القرى على البلدان ،
بذلك فقد تأهّلتْ أن تكون خير مركزٍ للإشعاع السماوي ، على كل المعمورة ، فهي هامَة العالم ، من حيث المكان و الجنسيات ، بعد أن احتكر اليهود الدين لأنفسهم ، وشايعوه لبُغيتهم ، أمّا نحن فما من أحدٍ يعلم غير الله(جل جلاله) هل كنّا خير أمّةٍ لخير الأنبياء ، كما حمل خير الأنبياء كل خير لنا ، وبالمنظور الآخر وقولهم الوسط هو العدل ، فلماذا لا ، ليكون المعنى ، وأردناكم أن تكونوا أمة وسطا ،
و إن كنّا لا نعرف محاسننا كأمّةٍ ، فمن المؤكد إننا نعرف بعضاً من سيئاتنا ، ما كان أقلّها الطباع الجاهلية التي شاقَـقنا بها الله في ما أراد منّا ، وأكرر قولي إني لستُ مع إتهام العرب دون الشعوب الأخرى بالجاهلية ، فكل بلدان العالم مرّ بها ما مر به العرب ، كوأدِ البنات واستعباد الزنج والأحباش ، لكنني هنا أقف محارباً كل ما يَمسّ ديني واعتقادي بالله(جل جلاله) ، بتوظيفهم آيات الله لإضفاء الشرعية على بعضٍ من الطباع ، وقد أخترت الحديث عن أشدهنَ أثراً علينا وعلى الناظرين من بعيد للإسلام ، و هي التي أراها سبباً لنفور الكثير من الإسلام ،
والأصدق سبباً لِنفور الإسلام من الكثير ، فالإسلام ولد متحضراً ، ومن رآه غير ذلك ، فقد وقف في زاويةٍ مظلمة ، حيث كان قبر أبيه ، لذا فإن أسباب احتلالِ الجاهلية لبعضٍ من آيات الله ، هو ما رأوه من غموضٍ فيها ،
و أما السبب الثاني في احتلال الجاهلية فهو ما تشترك فيه كل الأديان السماوية وغير السماوية ، ونعني الصراع من أجل السلطة والأطماع الدنيوية ، و بين هذا وذاك خُلقت تلكم الشبهات ، والتي سوف ندرسها ضمن إطارها التاريخي ، وأسباب الاعتقاد بما يخالف مفاهيم الآيات .
المطلب الثالث
آيات احتلها اليهود والأعاجم
لبني إسرائيل مميزات اختصوا بها عن سائر بني البشر ، وقولي هذا لا يمس كرامة العروبة ولا قداسة الدين ، لأن الاستكبار هو المُدان عند الله ، ولم يَكُ التواضع والإقرار ، بأفضلية الشعوب على بعضها ذنبا قط ، بل فضيلةً تجعلنا نتبصّر غلطات من سبقونا من اليهود والنصارى ، والأحرى من العرب الهالكة وغيرهم من الشعوب ، و ما يهمنا من تلك الشؤون هو الدين ، فقد كانوا أوّل شعبٍ أختاره الله لرسَالاته ، فبالرغم من إن إبراهيم الخليل ولد في العراق ، وحدث له ما حدث مع النمرود ، لكنه ترك العراق وهجره ، وكأنما طُلب منه أن يؤدّي رسالته كنبيٍ في الأراضي الكنعانية (القدس الآن) ،
إبراهيم وهو ( أب رحيم ) شخصية مبجلة وذو منزلة كبيرة لدى كل الأديان الإبراهيمية ، فقد وردت سيرته في سفر التكوين وهو أول سفرٍ في التوراة ، كذلك وردَ ذكره في الجزء الأول من القرآن إحدى عشر مرّة ، وبعدما هجر اليهود الأراضي الإبراهيميّة و سكنوا مصر ، وتكررتْ ذات القصة مع موسى وحدث ما حدث مع فرعون ، وعادوا جميعا معه إلى الأراضي الكنعانية ،
وكانوا كلّما تاهوا في الأرض ، عادوا مرةً أخرى إليها ( القدس الآن ) ، حتى احتلّوها مؤخراً وسكنوا فيها ، ورغم هذا الاحتلال ، إلّا أنهم ادعوا أن دخولهم على أساس ملكيتها لبني إسرائيل ، وبالفعل أطلقوا على دولتهم الجديدة اســـــم ( إسرائيل ) ، فيما أطلق العرب على الأراضي المحمدية بالسعودية ، فهم وبرغم كل مشاكلهم مع معظم القوميّات والأديان وعلى مدى التاريخ ، إلا إننا لا نُنْـكِر أنهم شعب منظم حتى فيما يمكرون ، وطموحاتهم دفعتهم لخلق الإبداع والبُدَع في آن واحد ، إذْ لم يكتفوا بتحريف كتابهم ، بل عمدوا لتحريف الإنجيل وحاولوا بذل كل الجهود لتحريف القرآن ، ولمّا لم يستطيعوا ، تحينوا الفرص ، حتى دعت الحاجة إليهم ، لسد عوزنا في قصص الأولين من الأنبياء وخصوصا آدم وحواء ، فأدخلوا رواياتهم بشتى الطرق والأساليب ، ليحتلّوا جزءً كبيراً ومهماً جداً من القرآن ،
أما الأعاجم وخاصة من أرض فارس ، فقد وجدتُ قاعدة لا شواذ فيها رغم غرابتها ، وهي إن كل مذهب تراه يسب ويلعن الفرس ، تجده أكثر المذاهب أخذاً منهم ومن آرائهم ، بل لم ينهجوا نهج عالمٍ ، إلا من أراضيهم والعكس صحيح ، وابدأ من البخاري ومسلم النيسابوري والترمذي والنسائي وسوف تكتشف صدق القاعدة ، هذا وإن معظم المسلمين الأوائل ، لم يعيروا اهتماما واسعا بالروايات اليهودية أو يتخوّفوا منها كما ذكرنا ، باعتبارها لا تمثل ركناً من أركان الدين ، ولا من فروعه ، فلا هي بالعبادات ولا هي بالمعاملات ، ولا تتعلق بتقسيم الغنائم والأنفال ولا بالزكوات ، وأما البعض من رجالات الدين ، فبقوا عـلى عبارتهم الشهيرة :
(علم لا ينفع من علمه ولا يضرّ من يجهل به) ، أما القليل الذين اهتموا للتفقه في الدين ، فقد أُهْمِل فقهَهَم ، كما أُهملتْ أحاديث كثيرة بهذا الشأن ،
وسوف ترى قريباً ، أن اليهود لم يكونوا عابثين في تلفيقهِم تلك الروايات ، بل لأنهم على علم بعظمة ما تخفيه تلك القصّة ، من أسرار عظيمة ، تُوصلنا لقمم لم نكن لنفكّر في الوصول إليها ، وهنا تكمن الأهمية في دراستنا للمخلوقات الثلاثة ، (آدم المسكين ، وحواء المزيفة ، وإبليس المتهم )
ولأن قصصهم تعايشت معنا عصورا بعد عصور ، غدا من الصعب علينا تصديق خلاف ما جاؤا به ، وما يدهش أنها قصص تكاد أن تكون فكاهية ، لا تختلف ابدا عن قصص كليلة ودمنة ، إن لم أكن قد ظلمتُ كليلة ودمنة في هذا التشبيه ، وهذا ما سنطالعه .
المحور الثاني
فروع الشبهات
بعد دراستنا للمحور الأول ، وهو أصل الشبهات في مطلبين ، وهما الغموض والانحراف أو ما أسميناه بالاحتلال ، سنتحدّث الآن عن كل شبهةٍ في مطلبٍ مستقل ، لنتناولها بكل تفاصيلها ، والتحدث عن أثرها على الإسلام ، وإن كـــان ينبغي دراســتهنّ كلاً وفــق أصل نشؤها ، لكننا في هذا الكتاب تجنبنا الطرق الهيكلية إلى الطرق السريعة لإيصال المعلومة ، وتيسير المطالعة ،
و ســـــوف نبدأ بطباعنا ، أي بشبهة ضـــرب المرأة ، حـــتى نــصلَ لأكـــثرها تعقيداً و أبلغها أثراً ، وهي شبهة الخليفة والتي ستكون مدخلاً لدراسة علم خلافة الأرض في البحث القادم ( ما نراه في خليفة الله ) .
الفرع الأول – طريقة لحفظ القرآن من التزييف والتحريف .
ليس الله جل وعلا من يحتاج لطريقةٍ لحفظ كتبهِ السّماويّة ، لكننا نحنُ من نحتاج لذلك ، كي لا يعمد فريق منّا لفعل ما فعله الكتابيّون من قبلنا ، ولا تَقُل لي إن القرآن حفظه الله وملائكته دون الكتب السابقة ، فكل الكتب هي كتب الله ، وكل الآيات آياته ، لكنه سبحانه جاء بآيات مشابهة للآيات التي سبق وأن حُرّفتْ في التوراة والإنجيل ، و أضفى عليها الغموض ، كي لا تقم أمّة الرسول محمد (صلّوآله) بما قامت به أمّة موسى وعيسى (عليهما السلام) من فعل ، فيحرّفون الكلم عن مواضعه ،
وخلاصة القول إن القرآن حُفِظَ عن طريق الآيات لا عن طريق الشخصيات ، فلا حـافـظ القرآن ، ولا أمــين ســر الوحي ، ولا حــبر الأمــة ، ولا عشرات المناصب والألقاب ، يمكنها حفظ الكتاب السماوي وعلى مدى التأريخ ، لولا آيات الله التي أضفى عليها الغموض ، لكيلا يعمد اليهود و من لفّ لفّهم لِفعلِ ما فعلوه قديماً ، وما لأحدٍ من فضلٍ على الله بحفظ القرآن ، وهذا الغموض في المفردات والنصوص خير دليل على عدم ثقة الله بنا من جديد ، لهذا جاءت الآيات التي أطلق الله عـليهن بــ(المحكمات و المتشابهات) كما جاءت الآيات (الناسخة) ،
ولأهمية الموضوع ســـنتنَاوله بشيء من التفصيل ، في مطلب خاص بــ( شبهة المحكم والمتشابه والناسخ و المتكرر ) ، ولهذا الغموض أرقام سرية سنتوصل لها ، لئن أردْنا حقاً بذل شيء لأُخرانا ، فسبحانه لم يجعل القرآن طلاسم ذات شفرات غيبية ، إنما ترك لعقولنا ولمن يريد الوصول والتبصر بآياته ، أوسع الأبواب و أعظم الأنوار لفهمها ،
{لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الواقعة/79 ، أي الذين تطهروا من الأطماع والأرجاس ونوايا تحريف مفاهيم القرآن ،
لذا فالنصوص أتت على منوال مدرسة الفن للناس ، ولم تأتِ كمدرسة الفن للفن ، إلّا حين وجدَ الله فينا انحراف الذمة ، ولنا التبصر و الوصول إليها ، خاصة بعد انتفاء العلة والغاية من الغموض ، فقد ثَبُتَ القرآن في الأذهان والكتب ، وسائر الأدوات والآلات الحديثة ، ومن المحال أن يتسنى لشخصٍ بل لأممٍ أن يحوز تزويره ، وكل هذا بفضل ما علّمه الله سبحانه للإنسان من علومٍ ما كان مدركها إلا بفضله ، {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} العلق /5
وبفضل ما وضعه لنا من مواد أولية لصنع ما صنعناه ، واكتشاف ما اكتشفناه ، ورغم كل ذلك ، فهم سلكوا الطريق القديم ، لتحريف الكلم عن معانيه الحقيقية ، أي انهم بالمكر ، سبقوا الاكتشافات العلمية بكثير ، والله(جل جلاله) المستعان .
الفرع الثاني - عدم اكتمال الأحداث في القصص التي جاء بها القرآن .
وهذا السبب تشترك فيهِ باقي الكتب السماوية ، فحين ذَكَر الله(جل جلاله) لنا قصص الأولين من الأنبياء ومن عاداهم والصالحين ومن جار عليهم ، أقتطف من تلك القصص الحكمة والموعظة ، فهما أساس اختياره لتلك القصص ، وبالتالي اختطف مقوّمات القصّة وباعد بينها ، أي عناصرها وخصائصها التي نعرّفها ، ولم يسرد مكمّلات الأحداث وتفاصيلها ، إلا في آيات وسور أخرى ، لكي لا يكون كِتَاب الله محض قصص وروايات ، كما إن هناك الكثير من قصص الأنبياء ، لم تذكر في القرآن ، كما بيّن الله(جل جلاله) ذلك { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا }النساء/ 164 ، لأنه سبحانه وتعالى لم يرَ مدعاةً لذكرهم ، أمّا لتشابه الحكمة والموعظة فيمن ذكروا في القرآن ، أو لأنّ ما مرّ بهم ، لا ينسجم وما مرّ به رسولنا الكريم مع قومهِ ، كأنْ يكونوا قد أدّوا رسَالاتهم ، دون أن يُتّهموا من قومهم بالكذب والجنون والسحر ، وهذا ما عناه تعالى بأحسن القصص { نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } يوسف/3 ، أي أقربها لما تمرّ به مع قومك من معاناةٍ ، إذ مرّتْ بها الأنبياء من قبلك ،
{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } هود/120
وعلى هذا الأساس ، ذُكر موسى مرّات عديدة ومتعددة (136) في القرآن لتشابه ما مرّ به الرسول من أذى ، مع ما مرّ به موسى النبي ، و كذلك لأنّ اليهود كانوا الأكثر تمرّداً ومحاربةً لنبينا ، وبالرغم من هذا التكرار والكثرة ، في ذكر الأحداث التي مرّت بموسى ، لكنك تجد الغموض يزداد كلّما ذُكرت أحداث وتفاصيل أكثر ، وهذا ما جعلهم يعتقدون بأنها فجوات لا بد من سدها ، في قصص الأنبياء أو الأحداث والمفردات الغامضة ، حتى التي تخاطبهم بها ، وهو نفس السبب ، الذي دفع رجال الدين من تلك العهود لسدّها ، باختلاق حكايات تكمل الصورة ، ليبيّنوا لرعاياهم أنهم الأعلم بالكُتُب السماويّة ، فلا يقعون في حرجٍ إذا سألهم من سائل ، لكنّ تصرفهم هذا أدى لنتائج وخيمة جداً ، أهمها انفلاق مذاهب جديدة من تلك الأديان ، وفرق من تلك المذاهب ، إذ اختلفوا حتى على الإفك الذي اختلقوه ، وبالتالي جاءت لنا جاهزة من اليهود وغيرهم ، ونحن من نأثم إذ نعمدُ لتفسير القرآن العظيم ، على أساطير اليهود وآراء الأعاجم ، والحقيقة إن ما من فجوةٍ أو خلّةٍ أو عوزٍ في كل القصص ، التي جاءت بها الكُتُب السماوية ، إنما جاءت كاملة مترابطة من حيث الحكمة والموعظة ، ومحاربة لأن تكون محض قصص للمؤانسة ، كذا ما سيمر بنا من قصة آدم وإبليس ، من أنها جاءت متكاملة وغير متكررة ، كما ظن من ظن ذلك .
الفرع الثالث - وضع مفاتيح الكثير من الآيات بيد الرسول .
باعتباره سبحانه قطع علاقته ببني البشر ، وختم سفراءه إلينا بالرسول الكريم ، وأنهى كتبه إلينا ، بكتابهِ الأخير ، ولأجل أن يحفظهُ أشدّ الحفظ كما ذكرنا ، وضع مفاتيح الكثير من الآيات بيد الرسول دون غيره ، لذا فإن هناك الكثير من الآيات التي لا يمكن تناولها بالتفسير ، إلا نقلاً عن الرسول (صلّوآله) خشية التحريف ، وخصوصاً سبب نزول تلك الآيات ، أي يمكننا القول إن هناك صورة أخرى من الغموض ، لا تتعلق بالمفردات ولا بالنصوص ، بل إن كل شيء واضح في النص القرآني ، لكنّ سبب نزوله ينقله إلى معنى آخر ، ربما خلاف المعنى الظاهر في النص ، كما إن هناك صورة أخرى ، ووجه آخر من الآيات يختلف تماماً عن كل ما تقدم ، وهي الآيات التي لا يمكن فهمها لا كمفردة ولا كنص ، فتلك النصوص غامضة بشكل مطلق ، من حيث المفردات ومن حيث النصوص ، ومن حيث أسباب النزول ، وفي ما أعتقده إنها من تركة النبي الأعظم ، فإذا كان لكل نبيّ تركةٍ من المعجزات التي أعطاها الله له ، فلِرسولنا الكريم ، القرآن الذي سيتركه لخليفة الأرض ، وفيه آيات لا يحل شفراتها إلا خــــليفة الله(جل جلاله) ليس أقلها الأحرف الموجودة في مـــــقدمة السور القرآنية .....
كـ( الم و الر والمر و كهيعص و ن و ق و غيرها ) ، وهذه التركة لا بد وانها محفوظة في تابوت العهد ، فلكل نبيٍ أثراً فيه ،
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } البقرة/248
راجع كتابنا (هوية يهودي) الجزء الثاني هيكل سليمان ، أو راجع مطلب الشريك المجهول بخصوص التابوت .
وبعد .... فبالمقابل ، سحب المفاتيح من المنافقين وأهل الأغراض الدنيوية ، لذلك تراهم كلما أخذوا من غير ما جاء به الله ورسوله(صلّوآله) ، للتخلص من غموض النصوص القرآنية ، يصلون لأحكام تخالف وتعاكس ما أنزله الله تماماً ، فكم ادعى العثمانيون أنهم أهل السنة الصحيحة ، وأسموا سلاطينهم مختلف الأسماء ، لكي يداهنوا المسلمين بتلك الأسماء ، على أنهم رموز العدل والمساواة ، لكننا نراهم وصلوا لأسوء العهود ضلالاً وظلاماً ، حتى قتل الحكّام بعضهم بعضاً ، وجاءوا بأحكام الخازوق وفقع العيون ، التي أخذوها من قوانين حمورابي اللعينة ، و هو ذات ما فعله اليهود وغيرهم ، لكشف الغموض .
الفرع الرابع – خصائص النصوص الإلهية .
أي إن من أسباب غموض النصوص القرآنية ، هي خصائصها كنصوص إلهية .
لا جدال إن كلام الله عزوعلا يرتقي عن كلام البشر مراتٍ ومراتٍ ، وإن أراد سبحانه من كلامه مخاطبتنا بمستوى ما نفهم ، فيبقى علاء الله لا يجرّده استخدامه للغةٍ ما أو تعبير معين ، المشكلة تبقى على من يريد أن يفهم آيات الله كيف له أن يرتقي لفهمها ، فلا غير الرُسُل يعقلون علّيته ، ولا غير الأنبياء يفهمون ما يريده كما يريده ، لا كما يريده كل طامحٍ وطامعٍ من عباده ، لكننا في موضع العتمة ، حيث لا نصّ لرسوله ولا قرينةً من علمائه ، يمكننا الاستدلال بما آتانا الله(جل جلاله) من مدارك ، فما أن نسمو بفكرنا ، فلسوف ندنو ولو بقَدْرٍ بسيطٍ ، يعيننا على تدبر البعض من آياته ،
ومن خلال سلسلة يوميات الفتى الأوّاب أمكنني أن أرصد الشيء القليل من تلك الخواص ، وهي :
أولا – خاصية التشريع و خاصية التنفيذ .
لعزة الله في حديثه مع خلقه خواص ، فسبحانه لا يجابه العبد بردّ فعلٍ مباشرٍ حال قيامه بأي تصرف ، ما لم يبين له سِبقَ التشريع ،
وبما إنه سبحانه يأمر ، فتقوم ملائكته بتنفيذ الأمر ، ترى إن الآيات التي تأتي بالفعل ( قال ) مضافاً له الضمير ( نا ) أي ( قلنا ) تعني التنفيذ للأمر ( أي ملائكته ) أمّا لو جاء بالفعل (قال) مجرداً ، فهذا يعني التشريع الأسبق للفعل ، وبماذا سيعاقب ، أو ماذا سيكون الرد ، ولنا أمثلة ستمر بنا في المحور الثاني والحوار الذي دار مع إبليس اللعين .
ثانيا – القول البليغ في الصّور البلاغية وفق المعيار الصادق .
عُرّفتْ الصــــورة البلاغية قــــــــــديماً بأنها [ استعارة قائمة على التماثل و التشابه بين الطرفين المشبه والمشبه به ] (6)
وتُعْرف الآن بمفهومها العام [ تمثيلا للواقع المرئي ذهنيا أو بصريا ، أو إدراكا مباشرا للعالم الخارجي الموضوعي تجسيدا وحسا ورؤية ] (7)
و القول البليغ هو القول الذي يصل القلوب ، ويترك أثراً عميقاً في النفس ، لدى الآخرين وجاء في الآي الكريم { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } النساء 63
لكنّ الأدباء بجميع الوانهم الأدبية ، حين يأتون بصورةٍ بلاغية ، فلا يعنيهم صدق المعيار في التشبيه والمحاكاة ، وما يهمهم هو وصول القول بصورة جديدة وملفتة للانتباه ، لأن الصورة البلاغية غالباً ما تعاكس مطلوب القول الصادق ، أمّا عندما يصوّر الباري لنا صورة بلاغية ، فسبحانه يختار القول البليغ والمؤثر في النفس وبصورة متناهية في الصدق ، أي إن الصدق يجب أن يحكم القول والصورة ، لذا تكون المفردات التي ينتقيها في الآية ، مفردات نعجز عن الإتيان بمرادفاتٍ لها ، وينبغي أن تكون هذه الخاصّية ، مما يساعدنا على فهم النصوص بدقّة متناهية ، لكننا وضعنا معايير ، سببت زيادة في غموض النصوص كمعيار فهم القرآن بالقرآن ، وسوف نتحدث قليلاً عن هذا المعيار في الفصل الخاص بضرب المرأة ، وعلينا أن نعرف إن هذا الإشكال وقع فيه أول من وقع اليهود ، ومثال ذلك قياسهم لفعل الشيطان بفعل إبليس ، وقالوا إن الشيطان هو إبليس ، وكم خلق اليهود من أكاذيب بسبب كذبةٍ لم يبالوا بها ، فبعد ذلك احتاجوا أن يدخلوا إبليس في الجنة فكذبوا وكذبوا ، حتى غدت أسطورة مضحكة ، وهذه الخاصية تدلنا على أن كل المنقول عن كلام إبليس أو الكافرين او المنافقين ، هو عن لسان حالهم ، لا عن نص كلامهم بشكل مباشرة كما نوّهنا ، وذلك لسببين
أ – أصبحت الآية منسوبة لإبليس أو للكافرين والمنافقين ، و ليست من كلام رب العالمين ، فكيف نتقبل أن يكون النص ، الذي قاله إبليس هو نفسه النص الذي جاء في القرآن .
ب – من المؤكد أن يقول الكافر والمنافق على لسانه ما ليس في قلبه ، وهذا ما يخالف الصدق في القول ، وحتى حين يقول أحد منهم الصدق نادماً أو متحسراً ، فلا ينقله سبحانه أيضاً بشكله المباشر ، لأن لسان القرآن لا يخاطب لسانهم ، بل ما معناه و ما خلاصته (لسان حالهم) .
ثالثا - القول بما ندّعي ، و ما ندعو من أسماء .
وهذه الخاصيّة أيضا من الخواص التي ينبغي أن تعطي معنى أقرب لفهم النص ، لا لمزيد من الغموض ، سواء ما ندعي أو ما نعلم ، ومثال ما ندّعيه ، قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ }النساء/ 136 ،
فيعني سبحانه : يا أيها الذين تدّعون أنكم آمنتم بالله ، آمنوا حقاً بالله ، وكذلك حين يخاطب أهل الكتاب فيعني : يا من تدعون أنكم أهل الكتاب ، و يا من تدعون إنكم من بني إسرائيل ، كما نادى اليهود مريم يا اخت هارون ، أي يا من تدعين إنكِ أخت هارون ، راجع (المطلب الثاني الفرع الثاني) ، وكثيراً ما خاطب أهل الكتاب بما يدعون من أرقام و أعداد ، وبما أنهم قاموا بتزييفها ، فلن يكررها الله(جل جلاله) علينا لأننا سنقوم بنفس ما قامت به اليهود ، أي من المحال أن نجد في القرآن أرقاما واعداداً حقيقيةَ مرّت على اليهود وقام اليهود بتحريفها ، ثم يعيدها لنا في القرآن ، لأنّ الأرقام لا تختفي بالغموض ، الذي نشده الله(جل جلاله) في القرآن ، ولو تمعّنّا في نصوص القرآن لوجدنا ، أنه تعالى نادانا كذلك بأهل الكتاب ، فسبحانه يتعامل معنا على حدٍ سواء ، وإلا ما نفع أن يضرب لنا مثلا ، ولمّا كان مشركو قريش يدعون بأن ما يقومون به من تعبّد للأصنام هو دينهم ، الذي وجدوا آباءهم وأجدادهم عليه ، فخاطبهم في سورة الجحد بأن لكم دينكم ولي دين ، لذا فان مناداة الله لهم بـ( دينكم ) ، ما هو بإقرار منه بأنّ لهم دين أنزله سبحانه ، إنما بموجب ما يدعون من مراسيم التعبد ،
أمّا تسمية الأسماء والأشياء بما نعلمها ونفهمها ، فالأمثِلَة كثيرة ، منها أسماء الأنبياء كـ(عيسى المسيح) ، فلم يعرف النصارى اسم عيسى ولم يَرِد في الكتاب المقدس مطلقاً ، إذ كان النصارى يعرفونه بـ(يسوع) ، والعرب كانوا فقط من يعرفوه بهذا الاسم ، ويعرفون أن ابن مريم الصّديقة يسمّى عيسى ، ولربما كان السبب اختلاف اللغة ، فلمّا كانت اللغة اليونانية التي كتب فيها الإنجيل قبل البعثة الشريفة ، هي من اليسار إلى اليمين والعربية من اليمين إلى اليسار ، فلاحظ جيداً حين يُقرأ اسم ( يسوع ) من اليسار إلى اليمين سيصبح ( عوسي ) أي حين يكتب يسوع باليونانية ، فإن اليونانية لا تعتمد المزج بين الأحرف و لمزيد من التوضيح لنكتب اسم (يسوع) بأحرف إنجليزية ( ISSUE ) لكن العربي سيقرأها من اليمين إلى اليسار ، لذا تكون وبشكل واضح عيسى ،
هذا وإن كل الديانات السماوية الإبراهيمية ، كتبتْ أول ما كتبتْ ، بلغات تبدأ من اليمين إلى اليسار ، لكنها سرعان ما كتبت بلغات متعددة ، كان أخطرها التي لا تعتمد المزج بين الأحرف ، لأنهم سيعمدون لتحريف الأحرف عن مواضعها ، وليست الكلمات فقط ، فيما حافظ القرآن على اللغة التي أُنزل بها ، وحين خاطبنا الله سبحانه ، ولأجل أن نفهم من الذي يعنيه بخطابه ، خاطبنا بما هو معروف لدينا ومفهوم عندنا ، كما إن آدم وزوجه لمّا هبطا للأرض وسكناها ، فقد أصبح لديهما اسم آخر عرفته اليهود ، وهكذا بقيّة الأنبياء من قبل ، أما أن نقوم بترجمة الاسم العبري لمفهوم عربي ، فهذا غير مقبول ، كمن يقول إن ( إبليس ) سُمّي بـ( إبليس ) لأنه أبْلَس من رحمة الله ، أو إن نوح سمّي بنوح لأنه بكى وناح ، فهي وإن كانت أسماء معرّبة ، لكنها تبقى أسماء أعجمية ، عُرفتْ عند العرب بهذا الشكل وهذا المعنى ، فهناك من يُشكل على أن القرآن وردت فيه أسماء أعجمية ، لكنه تعالى ذكر أن القرآن أُنزل بلسانٍ عربي ، وهذا هو الفرق بين لسان العرب واللغة العربية ، فاللسان العربي ، أقدم من قواعد اللغة بمئات بل بآلاف السنين ، أما قواعد اللغة العربية ، فوضعتْ بعد القرآن( ، وما أعنيه إن القرآن جاء مطابقاً للسان العرب وما يفهموه ، سواء بالأسماء أو حتى بالصور البلاغية ،
ورغم محاسن الغموض التي أرادها الله (جل جلاله) ، لكن الجاهلية واليهود لم يَفُتْهُم استغلال ذلك ، فالجاهليّة جلدوا المرأة ووضعوا السياط بيد القرآن ، وكفّروا وقتلوا ووضعوا بصمات القرآن على كل السيوف ، أما اليهود فلعبوا أعظم أدوارهم في زج رواياتهم المختلقة ، كما زجّوها في كتابهم و كتاب النصارى (الكتاب المقدس العهد القديم والجديد ) .
و القول بما ندّعيه من أسماء و ما نفهمه من علوم ، بينه الرسول بما نسب له من حديث (صلّوآله) ، {نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ، ونكلّم الناس على قدر عقولهم} وهو خير تأكيد لقولنا آنف الذكر ، لكنه حاشاه أن يخبر الناس ، ما يخالف الشرع ولو بذرّة واحدة ، على أساس أنهم لا يستطيعون فهمَها إلا بهذا النحو ، فتفسير الآي وضعه الله بيد رسوله ، لنعرف نحن من سينهج نهجه بالتفسير ، ومن ينحدر للتغيير ، ومن يريد للإسلام العيش ، ومن يريد قيادته كالجيش .
رابعا – أزليّة الآيات و أزليّة الأحكام .
نعني بالأزلية اللا بداية واللا نهاية ، وهذا ما لا يمكننا الوصول بالفكر إليه ، لأننا خلقنا من الفناء و إلى الفناء ، و لكن كان علينا دائماً ، أن نعي الأزلية ، في دين الله وفي آياته وفي أحكامهِ ، فما لآياته مَوات ، ولا لأحكامه تغيير ولا تبديل ولا تحويل ،
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} الفتح/23
{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} فاطر43
وسوف نقف على إن الأحكام ما تغيرت ، بل تغيّرت أحوالنا ، ووصولنا إلى شرف التعرف على أحكامه سبحانه ، وهذا الشرف ما ناله الكثير من الأقوام البائدة والسالفة ، لا بل والمعاصرة أيضاً ، لأنهم كانوا أدنى من الوصول والحصول على النظام السماوي الطّاهر ، وكان فريق من الأعراب من أولئك الذين ما استحقوا الوصول إلى طهارة الأبدان والنفوس ، فجاء قوله تعالى فيهم :
{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } براءة/ 97
وبالتأكيد طَفِق العرب يتهمون أهل البادية ، و أهل البادية يتهمون البدو الرحّل ، والحقيقة المُرّة التي لا أحب الوقوف عليها كثيراً ، أن الأعراب هم المتمسكين بالعروبة على الدين ، أي يفضّلون القومية العربية على الدين الإسلامي ، فلفظ الأعراب والأحباش و الأتراك ، يطلق حين نُرجِع الناس للقومية التي ينتسبون لها ، ثم أسرعنا لتقسم العرب إلى هالكة و عاربة و مستعربة ، للخلاص من أصولنا المعيبة ، وما فعلناه بالأنبياء قديماً ، فـ(هود وصالح) نبيان عربيان ، من قومين عربيين (عاد و ثمود) ونحن من أصولهم ، وإن هلكا فقد بقي منهم من ناصر صالح و هود عليهما السلام ، ومن لم تلحقه الهلكة ، وترى الحدود التي فرضوها من رجم المرأة ، وضربها والانقاص من قدرها ، حدود كذّب من نسبها لله ورسوله ،
وقوله تعالى { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } يس /10
والآية { مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } ، جاءت للإنكار (9) إنكاراً توبيخياً ، وفي الاصطلاح ، الإنكار هو : أن تنكر على المخاطب وتستهجن منه ما حدث ليتنبه السامع حتى يرجع إلى نفسه ، فيخجل و يرتدع ويعي الجواب (10) ،
أي أحقّاً ما أُنذر آباءهم فهم غافلون ، أم تدعون ذلك ، لأن الله تعالى أنذر كل آباءنا من آدم ونوح وهلمّ جرا ، فكيف عاش بينهم إسماعيل النبي (ص) ، وكيف عاش النصارى واليهود حولهم ، ولم يؤمن من بينهم من أحدٍ بالله الواحد ، كيف حكم الله علينا بحكم الكفر بأنّ { حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } قبل أن يختبرنا وينذر آباءنا ، لكننا اخترنا أن نبدأ من جديد ، وقد عَامَلَنا الله على هذا الأساس ، عسى الله أن لا نصل ، إن لم نكن وصلنا فعلاً ، لمثل نهاية الآباء من عادٍ وثمود ،
وأهم ما نشير له في هذه الخاصيّة ، هو أن كل الآيات التي جاءت في القرآن بخصوص تعامل أمّته سابقا معه ، كالتعدي على الرسول الكريم ، وعدم إعطائه التوقير المناسب لشخصه ، آيات حدثت وما زالت تحدث ، أي أن من يرفع صوته على صوت الرسول ، مازال وإلى يوم الساعة موجوداً بيننا ،فمن الجحود أن نقول إن الآية ماتت مع من مات ، لأن من قصدهم الله تعالى بهذه الفعلة قد ماتوا ، فلوا كان قصده سبحانه عليهم فقط ، لما أوردها كآية سماوية تتعايش معنى إلى يوم الدين ، وهذا شأن كل الآيات وكل الأمثال والعبر التي جاءت في القرآن الكريم .
خامسا : استخدام ذات المفردة ، لمعانٍ مضادّةٍ و مرادِفَةٍ .
كل الذي سنبينه من احتلال الجاهلية لآيات الله سبحانه ، كان في عدم فهمهم لهذه الخاصية ، فسبحانه وتعالى له جناحين في إيراد المفردة ، بل ثلاثة و أربعة ، فمفردة ضرب ، لها معنى الحجب والاقتطاع و القطع و(اللكم) أي الضرب بالحركة ، وكلٌ يرى الآيات في عين طبعه ، كذلك مفردة سلطان وهي من أهم المفردات التي أستعملها الله(جل جلاله) ، كما سيمر بنا في التفريق بين الكافر والمشرك (شبهة الشيطان) ،
وكما وردت كلمات ثابتة في معناها ، لكنّه سبحانه وتعالى أضاف لها ما يخالفها ، ليعكس معناها كـ(الشجرة) ، كالشجرة المباركة و الشجرة الملعونة ، والأمثال على هذه الخاصية كثيرة ووفيرة جدا ، بل تكاد لا تخلو آية منها ، علاوة لاستعماله المباشر للمضادات ، من الأفعال والأسماء ، وكما نرى في أسماءه الحسنى ، ما هو للعقوبة وما هو للرحمة ، راجع (شبهة أجنحة الملائكة) ....
المطلب الثاني
آياتٌ احْـتلتها الجاهلية
لستُ مع هواجسي التي تدعوني للتفكير بإن رسالة السماء تأخرت عن العرب أكثر من ألفِ سنةٍ ، بسبب تخلفهم ، وعدم قدرتهم على حمل الرسالة السماوية كما حملتها باقي الشعوب ، فبني إسرائيل ورغم أنهم حُمّلُوا رسالة السماء ، وأصبحوا من الشعوب المختارة عند الله سبحانه ، إلّا أنهم وبعد آلاف العقود ، وبعد مئاتٍ من الأنبياء الذين أرسلهم الله مبشرين ومنذرين لبني إسرائيل ، وصلوا لمستوى الحمار الذي يحمل أســــفاراً ، ومــن اعـــــتدى وحارب أحـــكام الله(جل جلاله) ، باتـــــوا قردة وخنازير ،
كما إني لا أستطيع أن أفخر بأن الله سبحانه وتعالى ، اختار لنا أحبّ أنبياءه وأقربهم إلى قلبه ليكون نبيّنا ، لأنّ القوي لا يُـرسلُ إلا للعَصِيّ ، والصبور لا يُـرسل إلا للكَـفور ، والأمّة الوسط التي نَرتجز بها (11) ، ماهي إلّا أن أم القُرى أصبحتْ زمن الرسول الكريم أوسط بلدان العالم ، في المكان وفي الأجناس ،
فقد سكنتها مختلف القوميّات والأديان ، كالأحبَاش والفرس والهند والسند ومن اليهود والنصارى والزرادشتية ، مما جعلنا أمّة وسطيّةً للتبليغ ، وهذا سبب تسميتها بأم القرى ، أي (أم الدول) ، ولو أردنا أن نضرب مثالاً مع الفارق ، نقول : لو كانت الكرة الأرضية كرأس بني آدم ، لكانت المنطقة من مكة إلى بيت القدس هامته التي يمسح عليها في الوضوء ومكة أم رأسه ، ولو كانت وجههُ ، كانت مكة مكان فمه ، { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } الأنعام /131
وتدلنا هذه الآية على إنهم قديماً يطلقون تسمية القرى على البلدان ،
بذلك فقد تأهّلتْ أن تكون خير مركزٍ للإشعاع السماوي ، على كل المعمورة ، فهي هامَة العالم ، من حيث المكان و الجنسيات ، بعد أن احتكر اليهود الدين لأنفسهم ، وشايعوه لبُغيتهم ، أمّا نحن فما من أحدٍ يعلم غير الله(جل جلاله) هل كنّا خير أمّةٍ لخير الأنبياء ، كما حمل خير الأنبياء كل خير لنا ، وبالمنظور الآخر وقولهم الوسط هو العدل ، فلماذا لا ، ليكون المعنى ، وأردناكم أن تكونوا أمة وسطا ،
و إن كنّا لا نعرف محاسننا كأمّةٍ ، فمن المؤكد إننا نعرف بعضاً من سيئاتنا ، ما كان أقلّها الطباع الجاهلية التي شاقَـقنا بها الله في ما أراد منّا ، وأكرر قولي إني لستُ مع إتهام العرب دون الشعوب الأخرى بالجاهلية ، فكل بلدان العالم مرّ بها ما مر به العرب ، كوأدِ البنات واستعباد الزنج والأحباش ، لكنني هنا أقف محارباً كل ما يَمسّ ديني واعتقادي بالله(جل جلاله) ، بتوظيفهم آيات الله لإضفاء الشرعية على بعضٍ من الطباع ، وقد أخترت الحديث عن أشدهنَ أثراً علينا وعلى الناظرين من بعيد للإسلام ، و هي التي أراها سبباً لنفور الكثير من الإسلام ،
والأصدق سبباً لِنفور الإسلام من الكثير ، فالإسلام ولد متحضراً ، ومن رآه غير ذلك ، فقد وقف في زاويةٍ مظلمة ، حيث كان قبر أبيه ، لذا فإن أسباب احتلالِ الجاهلية لبعضٍ من آيات الله ، هو ما رأوه من غموضٍ فيها ،
و أما السبب الثاني في احتلال الجاهلية فهو ما تشترك فيه كل الأديان السماوية وغير السماوية ، ونعني الصراع من أجل السلطة والأطماع الدنيوية ، و بين هذا وذاك خُلقت تلكم الشبهات ، والتي سوف ندرسها ضمن إطارها التاريخي ، وأسباب الاعتقاد بما يخالف مفاهيم الآيات .
المطلب الثالث
آيات احتلها اليهود والأعاجم
لبني إسرائيل مميزات اختصوا بها عن سائر بني البشر ، وقولي هذا لا يمس كرامة العروبة ولا قداسة الدين ، لأن الاستكبار هو المُدان عند الله ، ولم يَكُ التواضع والإقرار ، بأفضلية الشعوب على بعضها ذنبا قط ، بل فضيلةً تجعلنا نتبصّر غلطات من سبقونا من اليهود والنصارى ، والأحرى من العرب الهالكة وغيرهم من الشعوب ، و ما يهمنا من تلك الشؤون هو الدين ، فقد كانوا أوّل شعبٍ أختاره الله لرسَالاته ، فبالرغم من إن إبراهيم الخليل ولد في العراق ، وحدث له ما حدث مع النمرود ، لكنه ترك العراق وهجره ، وكأنما طُلب منه أن يؤدّي رسالته كنبيٍ في الأراضي الكنعانية (القدس الآن) ،
إبراهيم وهو ( أب رحيم ) شخصية مبجلة وذو منزلة كبيرة لدى كل الأديان الإبراهيمية ، فقد وردت سيرته في سفر التكوين وهو أول سفرٍ في التوراة ، كذلك وردَ ذكره في الجزء الأول من القرآن إحدى عشر مرّة ، وبعدما هجر اليهود الأراضي الإبراهيميّة و سكنوا مصر ، وتكررتْ ذات القصة مع موسى وحدث ما حدث مع فرعون ، وعادوا جميعا معه إلى الأراضي الكنعانية ،
وكانوا كلّما تاهوا في الأرض ، عادوا مرةً أخرى إليها ( القدس الآن ) ، حتى احتلّوها مؤخراً وسكنوا فيها ، ورغم هذا الاحتلال ، إلّا أنهم ادعوا أن دخولهم على أساس ملكيتها لبني إسرائيل ، وبالفعل أطلقوا على دولتهم الجديدة اســـــم ( إسرائيل ) ، فيما أطلق العرب على الأراضي المحمدية بالسعودية ، فهم وبرغم كل مشاكلهم مع معظم القوميّات والأديان وعلى مدى التاريخ ، إلا إننا لا نُنْـكِر أنهم شعب منظم حتى فيما يمكرون ، وطموحاتهم دفعتهم لخلق الإبداع والبُدَع في آن واحد ، إذْ لم يكتفوا بتحريف كتابهم ، بل عمدوا لتحريف الإنجيل وحاولوا بذل كل الجهود لتحريف القرآن ، ولمّا لم يستطيعوا ، تحينوا الفرص ، حتى دعت الحاجة إليهم ، لسد عوزنا في قصص الأولين من الأنبياء وخصوصا آدم وحواء ، فأدخلوا رواياتهم بشتى الطرق والأساليب ، ليحتلّوا جزءً كبيراً ومهماً جداً من القرآن ،
أما الأعاجم وخاصة من أرض فارس ، فقد وجدتُ قاعدة لا شواذ فيها رغم غرابتها ، وهي إن كل مذهب تراه يسب ويلعن الفرس ، تجده أكثر المذاهب أخذاً منهم ومن آرائهم ، بل لم ينهجوا نهج عالمٍ ، إلا من أراضيهم والعكس صحيح ، وابدأ من البخاري ومسلم النيسابوري والترمذي والنسائي وسوف تكتشف صدق القاعدة ، هذا وإن معظم المسلمين الأوائل ، لم يعيروا اهتماما واسعا بالروايات اليهودية أو يتخوّفوا منها كما ذكرنا ، باعتبارها لا تمثل ركناً من أركان الدين ، ولا من فروعه ، فلا هي بالعبادات ولا هي بالمعاملات ، ولا تتعلق بتقسيم الغنائم والأنفال ولا بالزكوات ، وأما البعض من رجالات الدين ، فبقوا عـلى عبارتهم الشهيرة :
(علم لا ينفع من علمه ولا يضرّ من يجهل به) ، أما القليل الذين اهتموا للتفقه في الدين ، فقد أُهْمِل فقهَهَم ، كما أُهملتْ أحاديث كثيرة بهذا الشأن ،
وسوف ترى قريباً ، أن اليهود لم يكونوا عابثين في تلفيقهِم تلك الروايات ، بل لأنهم على علم بعظمة ما تخفيه تلك القصّة ، من أسرار عظيمة ، تُوصلنا لقمم لم نكن لنفكّر في الوصول إليها ، وهنا تكمن الأهمية في دراستنا للمخلوقات الثلاثة ، (آدم المسكين ، وحواء المزيفة ، وإبليس المتهم )
ولأن قصصهم تعايشت معنا عصورا بعد عصور ، غدا من الصعب علينا تصديق خلاف ما جاؤا به ، وما يدهش أنها قصص تكاد أن تكون فكاهية ، لا تختلف ابدا عن قصص كليلة ودمنة ، إن لم أكن قد ظلمتُ كليلة ودمنة في هذا التشبيه ، وهذا ما سنطالعه .
المحور الثاني
فروع الشبهات
بعد دراستنا للمحور الأول ، وهو أصل الشبهات في مطلبين ، وهما الغموض والانحراف أو ما أسميناه بالاحتلال ، سنتحدّث الآن عن كل شبهةٍ في مطلبٍ مستقل ، لنتناولها بكل تفاصيلها ، والتحدث عن أثرها على الإسلام ، وإن كـــان ينبغي دراســتهنّ كلاً وفــق أصل نشؤها ، لكننا في هذا الكتاب تجنبنا الطرق الهيكلية إلى الطرق السريعة لإيصال المعلومة ، وتيسير المطالعة ،
و ســـــوف نبدأ بطباعنا ، أي بشبهة ضـــرب المرأة ، حـــتى نــصلَ لأكـــثرها تعقيداً و أبلغها أثراً ، وهي شبهة الخليفة والتي ستكون مدخلاً لدراسة علم خلافة الأرض في البحث القادم ( ما نراه في خليفة الله ) .