الفرع الثاني
الآيات الناسخة
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } البقرة / 106
إذا كان سبحانه يقصد القرآن في هذه الآية أيضاً ، أصبح في القرآن آيات ناسخة ومنسوخة ، وآيات منسية وغير منسية ، وآيات خيرٌ من آيات أخرى ، وإصرارهم هذا لا يعنيني (28) ،
لذا يكون المعنى في الآية أعلاه على افتراض قولنا ، أنه سبحانه قصد الكتاب ككل ( الكتب السماوية ) ، أتانا الله بآيات في القرآن ، خير من التي كانت في التوراة والإنجيل ، وهذا الخير يعني أنها خيرٌ لنا من تلك الآيات الصريحة بمدلولاتِها ، فعمد اليهود والنصارى لتحريفِها ، وبذلك حفظت من التزييف والتحريف ،
مثال ذلك قوله تعالى { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ }
لذا اشترك اليهود والنصارى بإخفاء هذه الآية ، بعد أن تبين أن أحمد جاء من ولد إسماعيل ، وليس من ولد إسحاق ، وبعد أن انتظروه مئات العقود في أرض الحجاز ، وفق ما أرشدهم الكهنة والرهبان على مكان ولادته ، وإن عجبتَ من تصرفهم هذا ، فهبْ مثلا أن رسولنا الكريم لم يكن خاتم النبيين ( حاشاه الله و لا سامح الله ) وجاء في القرآن إن خاتم الأنبياء ، سيكون من الفرس أو الروم بعد حينٍ من الدهر ، فماذا سنفعل بالقرآن ، هل ستخرج لي آية الحفظ وتقول ، أن الذكر هو القرآن ، و إن الله حفظ الذكْر من التحريف ،
نعم حفظه بأن جاء بمكرٍ خير مما يمكرون ، لا بل تخيّل لو لُعن أحداً من ساسة قريش وملوكها وهم من آبائنا العرب ، فيكفي أن أروي لك إشارة عن حزب البعث الذي حكم العراق ، أنهم قرروا رفع سورة المسد من الكتب المنهجية ، لأن أبا لهب عربي الأصل هاشمي النسب ، وبحجة أنه عم الرسول ، ونكتفي بهذه الإشارة والحر تكفيه الإشارة .
لأن المتبصر في فهم عظمة الله ، يجد إن القرآن خالٍ من أي آيةٍ تنسخ من سبقتها ، وأنه سبحانه أشار للكتاب وليس للقرآن بقوله ....
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } البقرة/106
وقد أشار سبحانه في مواضع كثيرة إلى الكتب السماوية التي سبقت القرآن بــ(الكتاب) ،
وهذا يعني إنّ بعض الآيات في التوراة مثلاً ، كانت واضحةً دون أي غموض ، فلمّا حرّفها عبادَهُ ، أتى سبحانه بخيرٍ من التي سبقتها ، وحاشاه من أن يأتي بآيةٍ خير من أُخرى ، فآياتُهُ كلها عظيمة وكلها خير ، والمعنى خيرٌ لنا من الآيات التي سبقتها فحرفها اليهود ، واستحق محرّفها اللعن والتكفير ، وبهذا الغموض نجونا من نفس المصير ، كما ذكرَ لنا سبحانه في القرآن ، آياتاً كالتي سبقتها في التوراة ، لكنها تحمل معانٍ عدّة ، يتمكن المنافق أن يحملها على غير محملها ، دون اللجوء لِتزييف وتحريف القرآن ، وهذه الفقرة تعتبر من أهم الأسباب لحفظ القرآن ،
أما معنى ننسخ فليس كما إدعى المفسرون أنها نمحو ، لأن ننسخ تعني ( نطبع ) أي نأتِ بمثلها طبق الأصل ، ولكن خير منها أي غامضة كي لا تعمدوا لتَحريفِها فهي خير لأمّة محمد ( صلّوآله) ، ولاحظ معنى النسخ لغة
نسخَ الكتاب : نقله وكتبه حرفاً بحرف .
نسخ فلان الشِعْرَ : أخذ اللفظ والمعنى من غيره
نسخ الوثيقة : صوّرها ..
أما معنى ننسخ في الفقه الإسلامي ، فعاكس المعنى اللغوي تماماً
النَّسخ الشَّرعيّ : ( الفقه ) إزالة ما كان ثابتًا بنصٍّ شرعيّ ويكون في اللَّفظ والحكم كنسْخ ذبح إسماعيل بالفداء (+)
فقد غيروا حتى المعنى اللغوي والثابت لدى العرب ، من أيام خلقهم وليومنا هذا ، من أجل أن يسندوا نظرية النسخ في القرآن ، وجعلوها بمعنى نُمْحِها ،
ونأتي الآن لمعنى نُنْسِها وهي بمعنى تركها وعدم تَذكْرها ، أي نُنْسي أهل الكتاب ، ما كان مضمون ومعنى تلك الآية ، فلما جاءت في القرآن جاءت بصيغة غامضة ، لا يمكنهم ربط دلالتها ، مع دلالة ما كان لديهم من آيات ، فهي ذات الآية التي في كتابهم ، ولكنهم نسوها ، لمّا حرّفوا الكلم عن مواضعه ، لأنهم إذا تذكروها ، سوف يعمدون إلى محاربتها في القرآن ، وكي لا تمتلك أمة النبي محمد(صلّوآله) من الآيات ما تخص علوم السماوات والأرض ،
وقبل أن نغادر هذا المطلب ، نسأل هل هناك حقا قرارات قد تغيرت واستبدلتْ ، كقضية ذبح إسماعيل ....
والجواب : نعم ولكن كيف ......لذا سنتخذه بمطلب خاص يلي هذا المطلب في دفع شبهة تغير الأحكام .
الفرع الثالث
الآيات المكررة في القرآن
بقي أن نسأل لماذا نجد إن هناك آيات متكررات ومتطابقات في صياغتها و رسمها ولا نعني هنا الأحكام ،
أ – التكرار الفعلي للأحداث ، في قضية آدم سترى أن الكثير من الآيات لم تتكرر في القرآن ، إنما تكررت الأحداث ، فمثلا ستجد أن الملائكة سجدت لآدم سبع مرات بالفعل ، لذا ذكر الله آية سجود الملائكة لآدم سبع مرات ، وآدم قَرُبَ الشجرة ثلاث مرات ، إذ ذاقها ثم أكل منها ثم أزلّه الشيطان عنها .
ب – مقتضى الضرورة ، أي وجود حكمة تقتضي التكرار في موضع آخر ، على إثر تصرفٍ مشابهٍ ، أتاه أحد من المخاطبين بآيات الله(جل جلاله) .
جـ – عدم تفعيل الآيات بالآيات ، ومن المفترض أن تكون هذه الفقرة منسوبة لأسباب غموض النصوص القرآنية ، لكنها من ضمن ما نعانيهِ من كسول وتبلّد في تفهم القرآن ...
نتذكّر قصة مشهورة ، أن أحد المسلمين كان يقرأ قوله تعالى
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} المائدة / 38
لكنه بدل أن يقول ( واللهُ عزيزٌ حكيمٌ ) راحت عينه على الآية التي بعدها من سورة المائدة / 39 ، وقال ( واللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، وحيث إن أعرابيّاً كان بالقرب منه لم يسمع قط القرآن ، قاطعه قائلا ما هذا الكلام ؟ أجابه المسلم إنه كلام الله الذي والذي ، قال الإعرابي : لا هذا الكلام ، ما هو بكلام خالق ، فراجع المسلم قراءته...... وقال : نعم قلت غفور رحيم بدل عزيز حكيم ،
أجاب الأعرابي : الآن أصبح الكلام كلام خالقٍ واللسان لسان عربي ، لأنه عزّ فحكم وحكم فقطع ، من خلال هذه الحكاية ، يتضح لنا ، أن المسلم لم يخطأ في قواعد اللغة ، ولكنه أخطأ في بلاغتها ، ولم يُعمل الكلمات بالآية ، وهذا بالضبط سبب فهمنا تكرار الآيات والعبارات ، فلو فعّلنا الكلمات بالكلمات والآيات بالآيات والآيات بالسور لتعرفنا على الكثير من أسرار وعلوم القرآن ، كما إن هناك قصص ذكرت بالتفاصيل ولكن في مكانات أخرى و في سور متعددة ، و كل ذلك سيمر بنا في قضية آدم وإبليس ، فالحوار المتصوّر لإبليس مع الرب ، ورد في أربع سورٍ قرآنية هي ( ص والحجر والإسراء والأعراف ) .
وختاماً لهذه الفروع ، فإن كل منها ، يحتاج إلى مؤلّف ، قد يتجاوز عدد صفحاته عن هذا المؤلّف ، لنقف على الآيات المحكمات التي جئن في القرآن الكريم ، ومن ثم المتشابهات ، والآيات التي نسخت بشكل آخر ووردت في القرآن من الكتب السابقة ، لأن الكتب الأولى تم التلاعب بها كما ذكرنا ، لذلك فيكفينا للبحث عن السلطة القضائية في الأرض ، ما مرّ بنا لهذه الفروع ، ورغم أنها لا تفي بالقدر الذي نرجوه ، لكن البيان بالمختصر والمفيد ، خير من الإغفال والهدر .
المطلب الرابع
شبهة تغيير الأحكام والسنن
بداية نقول إن نسخ الآيات ، التي بحثناه في المطلب السابق ، ماله أي علاقة من بعيد ولا من قريب بالأحكام ، ولكن تساءلنا إذا ما كان هناك من تغير في الأحكام من عدمها ، وجوابنا كان نعم ونكمل :
إن تغيّر الحكم بقرار آخر ، يقتضي تغيّر الظروف ، التي أصدرت القرار ابتداء ، لأن ما يتغير هو القرار الاستثنائي ، الذي طرأ على النص الثابت ، وهذا ما يسميه رجال القانون بالقرارات والأنظمة الداخلية ، وقبل أن ندخل بأحكام الله(جل جلاله) نبين ما جاء في أحكام رسوله الكريم ، وخيرُ مثال على ذلك زيارة القبور ، فلاحظ أنه صلى الله عليه وآله قد أمر بعدم زيارة القبور ، لمّا كان المسلمون الأوائل يزورون آباءهم من المشركين والكفّار ، فتعود لهم مَناهجُ الشرك التي كانوا يقومون بها في زيارة موتاهم ، وتعود لهم ذكريات التقرب إلى الأصنام ، و كأنهم وعبادة الأسلاف أشقاء لبعض ، فكان لزاماً أن يُصدر رسول الله قراراً يحرم على المسلمين الأوائل زيارة القبور ، لكنه وبعد انجلاء هذا الفكرة زار بنفسه قبر عمّه حمزة (ع) ، فعمه من أوائل شهداء المسلمين ، وإذْ استشهاده كان من أعظم الرزايا التي مني بها الإسلام ،
وكان غير مرةٍ يَزُر قبرَه ، ويدعو الله له بالرحمة ، لذا فإن قرار تحريم زيارة القبور ، غيّرهُ إسلام الموتى ، و تَغيّر الشعائر ، التي كانوا يؤدونها أمام القبور وهذه علّة التحريم وتلك علّة الحليّة ، لكن الحقيقة هي الإباحة ، أي إن زيارة القبور مباحة منذ القدم ( الدستور الإلهي ) ، لكن العباد بعد أن أشركوا وجاءوا بتصرفات تعبدّية لموتاهم ، وبعد أن أصبح الموتى أنفسهم من المشركين والكافرين مُنِعَ ، وذاك بقرار يستثني حلية زيارة القبور من الطقوس والشعائر ، وبعد الإسلام رفع هذا القرار المستثنى عن القاعدة الأساسية والرئيسية ،
لذا فتغير القرار تتبعه تغيّرنا نحن ، لا تغير سنة الله ورسوله ، فنحن الذين قررنا زيارة القبور وهم أموات كفرة ، وقمنا بتصرفات نكِرة ، إذ كانوا يأخذون الأصنام ويضعوها عند القبور لحماية الميت ، كما يعتقدون أهل قريش قديماً ، فجابه الله(جل جلاله) قرارنا ، بقرار منع زيارة القبور الذي جاء على لسانه (صلّوآله) . وعليه يجب توفر شرطين لزيارة الموتى 1 – أن يكون الميت من المسلمين 2 – عدم القيام بطقوس الشرك التي كان يقوم بها المشركون ،كوضع الأصنام لحماية الميت ،
و جولتنا الآن تخص ما يدّعون من نسخ حكم ذبح إسماعيل بالفداء ، لو كان سبحانه يغير الأحكام بناءً على أفعال العباد ، فما اختلافه حاشاه عن العباد ، أنت تنوي قتلي فأترجاك ، فتغير نيّتَك وتقول أعطني ألف دينار فداءً واذهب ، أو أنت تريد اختباري ، فأفعلُ ما تطلبه ، فتقول كفى لا تكمل أنا أردت اختبارك ، لا بل أنت قاضي و ترى من تعطف على حاله ، فتغير قرارك ، من الإعدام إلى البراءة ، ولو طـــــــــــالعنا
قوله تعالى { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كذلك نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ }
تجد قوله تعالى ( صدّقت الرؤيا ) أي عملت بها وطبقتها ، فمصدّق تعني مطابق/ الصِّدْقُ : مطابقة الكلام للواقع ، وفق اعتقاد المتكلم(+)
لذا فإن الأمر كان كما فعل إبراهيم بالضبط ، والفدية محددة قبل قيام إبراهيم بذلك ، فإن فعلها لأصبحت سنة والعياذ بالله ، في قتل الآباء لأبنائهم ، ولا يمكن أن يكون الأمر جاء على هذا الأساس ، بل جاء على أساس استعداد الموالين لله من الصالحين والأنبياء ، بأن يفدوا أبناءهم وذرياتهم وأرواحهم ، من أجل أحكام الله وإعلاء اسمه ، ولو لم يفعلها إبراهيم ولا إسماعيل ، لما كان من نسلهم أنبياء يمكنهم أن يضحوا بذرياتهم من أجل إعلاء اسم الله ، ونفهم اليوم جلياً إن الجينات الوراثية تأخذ حتى من طباع الأبوين ، بل ومن الحركات التلقائية المتكررة التي يقوم بها الأب بل والجد وجد الجد ، وهذا بالفعل ما قام به رسولنا المصطفى(صلّوآله) من استعداده الدائم ، أن يضحي بنفسه وسبطيه الحسن والحسين عليهما السلام ، لأجل ديمومة رسالته الشريفة ، و لأجل القيام بشعائرٍ تخص الإسلام ،
خلاصة القول ، لم يكن هناك حكم يقضي بذبح إسماعيل مطلقاً فأبدله الله ، بل كان هناك ابتلاء عليهما ، أي امتحان نجاحا فيه وأكملاه تماما مثلما هوه ، و كما يجب أن يكون { إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } و القصة كلها رؤيا ، لما سوف يجري لاحقاً ، من شعائر للحج و شعائر أخرى ، ولن تقع تلك الشعائر ، حتى يمتثلان للتضحية بكل شيء ، وبأعزّ شخص لديهما ، فإبراهيم أعز شخص لإسماعيل ، وإسماعيل أعزّ شخصٍ لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ،
وبخصوص تغيّر القبلة ، فهو كما ذكرنا من تبدّل الأحوال وليس تبدل الأحكام ، فالحقيقة التي غيرها اليهود هي :
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } آل عمران / 96
أن مكة كانت منذ خلق الخلق قبلةً للملائكة ، ومن ثمّ للجن ، ومن ثم للإنس ، وأول من بناها ربما كان هابيل عليه السلام ، وأول من وضع الحجر الأسود ، كان قابيل ، وهذا ما سنتحدث عنه طويلاً ، في المطالب القادمة ، والقرار الاستثنائي كان بيت القدس كقبلةٍ ،
ولنا الآن بحث يخص ما جاء في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} النساء/43
و بغض النظر عمّا جاء بتفاسير علمائنا ، وما إذا كان المقصود به ، سكرة الخمرة ، أم سكرة النوم ، أم سكرة الانشغال ، أم سكرة الهوى ، فمرّ بنا إن من خصائص آيات الله أنها تمرّ علينا مدى الدهور والأزمان ، فلا مَوات لآيةٍ من القرآن أبداً ، بحجة أنه تعالى كان يتحدث عن شأن انتهى وانقضى ، لذا فإن هذه الآية يجب أن تحيى بإرشاد المسلمين ، على عدم ترك الصلاة ، حتى لو قرب الخمرة ، لأننا نجد الكثير ممن يعاقر الخمرة ، فيترك الصلاة والصيام ، ويميل للفسق والفجور بحجة ، أنه لا يستطيع تركها ، وبما أنه يشرب الخمرة فماذا عاد له من شرع الله شيء ، لكن هذه الآية العظيمة تدعو شارب الخمر على عدم اتخاذ شربه الخمرة ، حجة لترك الصلاة ، وترك الدين كله إلى الانحراف كله ، بل عليه أن يعاود الصلاة ، بعد أن ينتبه ويفقه ما يقول ، ويغتسل ويرتدي الطاهر من ملابسه ، عله بتكراره للصحيح يجانب الغلط الذي هو فيه ، وإن كانت صلاته لن تقبل ، إلا بترك الفحشاء والمنكر ، لكن حركاته سوف تدافع عن وجودها في بدنه ، وهي ما نسميها بالعادات الحميدة ، والأساليب التربوية ، التي تتغلب على عاداته السيئة فسوف يستثقلها ، لأن عليه الغسل والانتباه خمس مرات في اليوم ، كما هي إشارة لمن حلل تناول المخدرات ، بأن المسكر ما أذهب العقل ، حتى وإن كانت غير نجسة الذات ،
ولو تحدثنا قليلا عن الإرادة والمشيئة قبل أن نستقل بمطلب خاص لها ، نقول إن المشيئة ، هي دستور الله الأعظم ، فلو أراد الله لك أن تموت بعمر الأربعين ، أو قضى عليك أي قضاء و ابتلاء ، فقمت بالدعاء مما غير قضاءك ، فهل علتْ إرادته على مشيئته استغفر الله ، أم تغيرت ذات المشيئة (راجع مطلب شبهة الإرادة والمشيئة ) .
الآيات الناسخة
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } البقرة / 106
إذا كان سبحانه يقصد القرآن في هذه الآية أيضاً ، أصبح في القرآن آيات ناسخة ومنسوخة ، وآيات منسية وغير منسية ، وآيات خيرٌ من آيات أخرى ، وإصرارهم هذا لا يعنيني (28) ،
لذا يكون المعنى في الآية أعلاه على افتراض قولنا ، أنه سبحانه قصد الكتاب ككل ( الكتب السماوية ) ، أتانا الله بآيات في القرآن ، خير من التي كانت في التوراة والإنجيل ، وهذا الخير يعني أنها خيرٌ لنا من تلك الآيات الصريحة بمدلولاتِها ، فعمد اليهود والنصارى لتحريفِها ، وبذلك حفظت من التزييف والتحريف ،
مثال ذلك قوله تعالى { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ }
لذا اشترك اليهود والنصارى بإخفاء هذه الآية ، بعد أن تبين أن أحمد جاء من ولد إسماعيل ، وليس من ولد إسحاق ، وبعد أن انتظروه مئات العقود في أرض الحجاز ، وفق ما أرشدهم الكهنة والرهبان على مكان ولادته ، وإن عجبتَ من تصرفهم هذا ، فهبْ مثلا أن رسولنا الكريم لم يكن خاتم النبيين ( حاشاه الله و لا سامح الله ) وجاء في القرآن إن خاتم الأنبياء ، سيكون من الفرس أو الروم بعد حينٍ من الدهر ، فماذا سنفعل بالقرآن ، هل ستخرج لي آية الحفظ وتقول ، أن الذكر هو القرآن ، و إن الله حفظ الذكْر من التحريف ،
نعم حفظه بأن جاء بمكرٍ خير مما يمكرون ، لا بل تخيّل لو لُعن أحداً من ساسة قريش وملوكها وهم من آبائنا العرب ، فيكفي أن أروي لك إشارة عن حزب البعث الذي حكم العراق ، أنهم قرروا رفع سورة المسد من الكتب المنهجية ، لأن أبا لهب عربي الأصل هاشمي النسب ، وبحجة أنه عم الرسول ، ونكتفي بهذه الإشارة والحر تكفيه الإشارة .
لأن المتبصر في فهم عظمة الله ، يجد إن القرآن خالٍ من أي آيةٍ تنسخ من سبقتها ، وأنه سبحانه أشار للكتاب وليس للقرآن بقوله ....
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } البقرة/106
وقد أشار سبحانه في مواضع كثيرة إلى الكتب السماوية التي سبقت القرآن بــ(الكتاب) ،
وهذا يعني إنّ بعض الآيات في التوراة مثلاً ، كانت واضحةً دون أي غموض ، فلمّا حرّفها عبادَهُ ، أتى سبحانه بخيرٍ من التي سبقتها ، وحاشاه من أن يأتي بآيةٍ خير من أُخرى ، فآياتُهُ كلها عظيمة وكلها خير ، والمعنى خيرٌ لنا من الآيات التي سبقتها فحرفها اليهود ، واستحق محرّفها اللعن والتكفير ، وبهذا الغموض نجونا من نفس المصير ، كما ذكرَ لنا سبحانه في القرآن ، آياتاً كالتي سبقتها في التوراة ، لكنها تحمل معانٍ عدّة ، يتمكن المنافق أن يحملها على غير محملها ، دون اللجوء لِتزييف وتحريف القرآن ، وهذه الفقرة تعتبر من أهم الأسباب لحفظ القرآن ،
أما معنى ننسخ فليس كما إدعى المفسرون أنها نمحو ، لأن ننسخ تعني ( نطبع ) أي نأتِ بمثلها طبق الأصل ، ولكن خير منها أي غامضة كي لا تعمدوا لتَحريفِها فهي خير لأمّة محمد ( صلّوآله) ، ولاحظ معنى النسخ لغة
نسخَ الكتاب : نقله وكتبه حرفاً بحرف .
نسخ فلان الشِعْرَ : أخذ اللفظ والمعنى من غيره
نسخ الوثيقة : صوّرها ..
أما معنى ننسخ في الفقه الإسلامي ، فعاكس المعنى اللغوي تماماً
النَّسخ الشَّرعيّ : ( الفقه ) إزالة ما كان ثابتًا بنصٍّ شرعيّ ويكون في اللَّفظ والحكم كنسْخ ذبح إسماعيل بالفداء (+)
فقد غيروا حتى المعنى اللغوي والثابت لدى العرب ، من أيام خلقهم وليومنا هذا ، من أجل أن يسندوا نظرية النسخ في القرآن ، وجعلوها بمعنى نُمْحِها ،
ونأتي الآن لمعنى نُنْسِها وهي بمعنى تركها وعدم تَذكْرها ، أي نُنْسي أهل الكتاب ، ما كان مضمون ومعنى تلك الآية ، فلما جاءت في القرآن جاءت بصيغة غامضة ، لا يمكنهم ربط دلالتها ، مع دلالة ما كان لديهم من آيات ، فهي ذات الآية التي في كتابهم ، ولكنهم نسوها ، لمّا حرّفوا الكلم عن مواضعه ، لأنهم إذا تذكروها ، سوف يعمدون إلى محاربتها في القرآن ، وكي لا تمتلك أمة النبي محمد(صلّوآله) من الآيات ما تخص علوم السماوات والأرض ،
وقبل أن نغادر هذا المطلب ، نسأل هل هناك حقا قرارات قد تغيرت واستبدلتْ ، كقضية ذبح إسماعيل ....
والجواب : نعم ولكن كيف ......لذا سنتخذه بمطلب خاص يلي هذا المطلب في دفع شبهة تغير الأحكام .
الفرع الثالث
الآيات المكررة في القرآن
بقي أن نسأل لماذا نجد إن هناك آيات متكررات ومتطابقات في صياغتها و رسمها ولا نعني هنا الأحكام ،
أ – التكرار الفعلي للأحداث ، في قضية آدم سترى أن الكثير من الآيات لم تتكرر في القرآن ، إنما تكررت الأحداث ، فمثلا ستجد أن الملائكة سجدت لآدم سبع مرات بالفعل ، لذا ذكر الله آية سجود الملائكة لآدم سبع مرات ، وآدم قَرُبَ الشجرة ثلاث مرات ، إذ ذاقها ثم أكل منها ثم أزلّه الشيطان عنها .
ب – مقتضى الضرورة ، أي وجود حكمة تقتضي التكرار في موضع آخر ، على إثر تصرفٍ مشابهٍ ، أتاه أحد من المخاطبين بآيات الله(جل جلاله) .
جـ – عدم تفعيل الآيات بالآيات ، ومن المفترض أن تكون هذه الفقرة منسوبة لأسباب غموض النصوص القرآنية ، لكنها من ضمن ما نعانيهِ من كسول وتبلّد في تفهم القرآن ...
نتذكّر قصة مشهورة ، أن أحد المسلمين كان يقرأ قوله تعالى
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} المائدة / 38
لكنه بدل أن يقول ( واللهُ عزيزٌ حكيمٌ ) راحت عينه على الآية التي بعدها من سورة المائدة / 39 ، وقال ( واللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، وحيث إن أعرابيّاً كان بالقرب منه لم يسمع قط القرآن ، قاطعه قائلا ما هذا الكلام ؟ أجابه المسلم إنه كلام الله الذي والذي ، قال الإعرابي : لا هذا الكلام ، ما هو بكلام خالق ، فراجع المسلم قراءته...... وقال : نعم قلت غفور رحيم بدل عزيز حكيم ،
أجاب الأعرابي : الآن أصبح الكلام كلام خالقٍ واللسان لسان عربي ، لأنه عزّ فحكم وحكم فقطع ، من خلال هذه الحكاية ، يتضح لنا ، أن المسلم لم يخطأ في قواعد اللغة ، ولكنه أخطأ في بلاغتها ، ولم يُعمل الكلمات بالآية ، وهذا بالضبط سبب فهمنا تكرار الآيات والعبارات ، فلو فعّلنا الكلمات بالكلمات والآيات بالآيات والآيات بالسور لتعرفنا على الكثير من أسرار وعلوم القرآن ، كما إن هناك قصص ذكرت بالتفاصيل ولكن في مكانات أخرى و في سور متعددة ، و كل ذلك سيمر بنا في قضية آدم وإبليس ، فالحوار المتصوّر لإبليس مع الرب ، ورد في أربع سورٍ قرآنية هي ( ص والحجر والإسراء والأعراف ) .
وختاماً لهذه الفروع ، فإن كل منها ، يحتاج إلى مؤلّف ، قد يتجاوز عدد صفحاته عن هذا المؤلّف ، لنقف على الآيات المحكمات التي جئن في القرآن الكريم ، ومن ثم المتشابهات ، والآيات التي نسخت بشكل آخر ووردت في القرآن من الكتب السابقة ، لأن الكتب الأولى تم التلاعب بها كما ذكرنا ، لذلك فيكفينا للبحث عن السلطة القضائية في الأرض ، ما مرّ بنا لهذه الفروع ، ورغم أنها لا تفي بالقدر الذي نرجوه ، لكن البيان بالمختصر والمفيد ، خير من الإغفال والهدر .
المطلب الرابع
شبهة تغيير الأحكام والسنن
بداية نقول إن نسخ الآيات ، التي بحثناه في المطلب السابق ، ماله أي علاقة من بعيد ولا من قريب بالأحكام ، ولكن تساءلنا إذا ما كان هناك من تغير في الأحكام من عدمها ، وجوابنا كان نعم ونكمل :
إن تغيّر الحكم بقرار آخر ، يقتضي تغيّر الظروف ، التي أصدرت القرار ابتداء ، لأن ما يتغير هو القرار الاستثنائي ، الذي طرأ على النص الثابت ، وهذا ما يسميه رجال القانون بالقرارات والأنظمة الداخلية ، وقبل أن ندخل بأحكام الله(جل جلاله) نبين ما جاء في أحكام رسوله الكريم ، وخيرُ مثال على ذلك زيارة القبور ، فلاحظ أنه صلى الله عليه وآله قد أمر بعدم زيارة القبور ، لمّا كان المسلمون الأوائل يزورون آباءهم من المشركين والكفّار ، فتعود لهم مَناهجُ الشرك التي كانوا يقومون بها في زيارة موتاهم ، وتعود لهم ذكريات التقرب إلى الأصنام ، و كأنهم وعبادة الأسلاف أشقاء لبعض ، فكان لزاماً أن يُصدر رسول الله قراراً يحرم على المسلمين الأوائل زيارة القبور ، لكنه وبعد انجلاء هذا الفكرة زار بنفسه قبر عمّه حمزة (ع) ، فعمه من أوائل شهداء المسلمين ، وإذْ استشهاده كان من أعظم الرزايا التي مني بها الإسلام ،
وكان غير مرةٍ يَزُر قبرَه ، ويدعو الله له بالرحمة ، لذا فإن قرار تحريم زيارة القبور ، غيّرهُ إسلام الموتى ، و تَغيّر الشعائر ، التي كانوا يؤدونها أمام القبور وهذه علّة التحريم وتلك علّة الحليّة ، لكن الحقيقة هي الإباحة ، أي إن زيارة القبور مباحة منذ القدم ( الدستور الإلهي ) ، لكن العباد بعد أن أشركوا وجاءوا بتصرفات تعبدّية لموتاهم ، وبعد أن أصبح الموتى أنفسهم من المشركين والكافرين مُنِعَ ، وذاك بقرار يستثني حلية زيارة القبور من الطقوس والشعائر ، وبعد الإسلام رفع هذا القرار المستثنى عن القاعدة الأساسية والرئيسية ،
لذا فتغير القرار تتبعه تغيّرنا نحن ، لا تغير سنة الله ورسوله ، فنحن الذين قررنا زيارة القبور وهم أموات كفرة ، وقمنا بتصرفات نكِرة ، إذ كانوا يأخذون الأصنام ويضعوها عند القبور لحماية الميت ، كما يعتقدون أهل قريش قديماً ، فجابه الله(جل جلاله) قرارنا ، بقرار منع زيارة القبور الذي جاء على لسانه (صلّوآله) . وعليه يجب توفر شرطين لزيارة الموتى 1 – أن يكون الميت من المسلمين 2 – عدم القيام بطقوس الشرك التي كان يقوم بها المشركون ،كوضع الأصنام لحماية الميت ،
و جولتنا الآن تخص ما يدّعون من نسخ حكم ذبح إسماعيل بالفداء ، لو كان سبحانه يغير الأحكام بناءً على أفعال العباد ، فما اختلافه حاشاه عن العباد ، أنت تنوي قتلي فأترجاك ، فتغير نيّتَك وتقول أعطني ألف دينار فداءً واذهب ، أو أنت تريد اختباري ، فأفعلُ ما تطلبه ، فتقول كفى لا تكمل أنا أردت اختبارك ، لا بل أنت قاضي و ترى من تعطف على حاله ، فتغير قرارك ، من الإعدام إلى البراءة ، ولو طـــــــــــالعنا
قوله تعالى { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كذلك نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ }
تجد قوله تعالى ( صدّقت الرؤيا ) أي عملت بها وطبقتها ، فمصدّق تعني مطابق/ الصِّدْقُ : مطابقة الكلام للواقع ، وفق اعتقاد المتكلم(+)
لذا فإن الأمر كان كما فعل إبراهيم بالضبط ، والفدية محددة قبل قيام إبراهيم بذلك ، فإن فعلها لأصبحت سنة والعياذ بالله ، في قتل الآباء لأبنائهم ، ولا يمكن أن يكون الأمر جاء على هذا الأساس ، بل جاء على أساس استعداد الموالين لله من الصالحين والأنبياء ، بأن يفدوا أبناءهم وذرياتهم وأرواحهم ، من أجل أحكام الله وإعلاء اسمه ، ولو لم يفعلها إبراهيم ولا إسماعيل ، لما كان من نسلهم أنبياء يمكنهم أن يضحوا بذرياتهم من أجل إعلاء اسم الله ، ونفهم اليوم جلياً إن الجينات الوراثية تأخذ حتى من طباع الأبوين ، بل ومن الحركات التلقائية المتكررة التي يقوم بها الأب بل والجد وجد الجد ، وهذا بالفعل ما قام به رسولنا المصطفى(صلّوآله) من استعداده الدائم ، أن يضحي بنفسه وسبطيه الحسن والحسين عليهما السلام ، لأجل ديمومة رسالته الشريفة ، و لأجل القيام بشعائرٍ تخص الإسلام ،
خلاصة القول ، لم يكن هناك حكم يقضي بذبح إسماعيل مطلقاً فأبدله الله ، بل كان هناك ابتلاء عليهما ، أي امتحان نجاحا فيه وأكملاه تماما مثلما هوه ، و كما يجب أن يكون { إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } و القصة كلها رؤيا ، لما سوف يجري لاحقاً ، من شعائر للحج و شعائر أخرى ، ولن تقع تلك الشعائر ، حتى يمتثلان للتضحية بكل شيء ، وبأعزّ شخص لديهما ، فإبراهيم أعز شخص لإسماعيل ، وإسماعيل أعزّ شخصٍ لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ،
وبخصوص تغيّر القبلة ، فهو كما ذكرنا من تبدّل الأحوال وليس تبدل الأحكام ، فالحقيقة التي غيرها اليهود هي :
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } آل عمران / 96
أن مكة كانت منذ خلق الخلق قبلةً للملائكة ، ومن ثمّ للجن ، ومن ثم للإنس ، وأول من بناها ربما كان هابيل عليه السلام ، وأول من وضع الحجر الأسود ، كان قابيل ، وهذا ما سنتحدث عنه طويلاً ، في المطالب القادمة ، والقرار الاستثنائي كان بيت القدس كقبلةٍ ،
ولنا الآن بحث يخص ما جاء في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} النساء/43
و بغض النظر عمّا جاء بتفاسير علمائنا ، وما إذا كان المقصود به ، سكرة الخمرة ، أم سكرة النوم ، أم سكرة الانشغال ، أم سكرة الهوى ، فمرّ بنا إن من خصائص آيات الله أنها تمرّ علينا مدى الدهور والأزمان ، فلا مَوات لآيةٍ من القرآن أبداً ، بحجة أنه تعالى كان يتحدث عن شأن انتهى وانقضى ، لذا فإن هذه الآية يجب أن تحيى بإرشاد المسلمين ، على عدم ترك الصلاة ، حتى لو قرب الخمرة ، لأننا نجد الكثير ممن يعاقر الخمرة ، فيترك الصلاة والصيام ، ويميل للفسق والفجور بحجة ، أنه لا يستطيع تركها ، وبما أنه يشرب الخمرة فماذا عاد له من شرع الله شيء ، لكن هذه الآية العظيمة تدعو شارب الخمر على عدم اتخاذ شربه الخمرة ، حجة لترك الصلاة ، وترك الدين كله إلى الانحراف كله ، بل عليه أن يعاود الصلاة ، بعد أن ينتبه ويفقه ما يقول ، ويغتسل ويرتدي الطاهر من ملابسه ، عله بتكراره للصحيح يجانب الغلط الذي هو فيه ، وإن كانت صلاته لن تقبل ، إلا بترك الفحشاء والمنكر ، لكن حركاته سوف تدافع عن وجودها في بدنه ، وهي ما نسميها بالعادات الحميدة ، والأساليب التربوية ، التي تتغلب على عاداته السيئة فسوف يستثقلها ، لأن عليه الغسل والانتباه خمس مرات في اليوم ، كما هي إشارة لمن حلل تناول المخدرات ، بأن المسكر ما أذهب العقل ، حتى وإن كانت غير نجسة الذات ،
ولو تحدثنا قليلا عن الإرادة والمشيئة قبل أن نستقل بمطلب خاص لها ، نقول إن المشيئة ، هي دستور الله الأعظم ، فلو أراد الله لك أن تموت بعمر الأربعين ، أو قضى عليك أي قضاء و ابتلاء ، فقمت بالدعاء مما غير قضاءك ، فهل علتْ إرادته على مشيئته استغفر الله ، أم تغيرت ذات المشيئة (راجع مطلب شبهة الإرادة والمشيئة ) .